22‏/3‏/2020

ادارة الموقع

فيروس كورونا بين العلم والإيمان


فيروس كورونا
بين العلم والإيمان

بقلم : سماحة آية الله الفقيه السيد ابو الحسن حميد المقدس الغريفي "دام ظله"


مما ينبغي التنبه إليه عدم وجود تصادم بين العلم والإيمان لأنَّ كليهما يدوران في حلقة متصلة وأواصر مترابطة لا ينفك أحدهما عن الآخر وفق معادلة متوازنة تقطع بأنَّ الأشياء لا تجري إلا بأسبابها ، وهذه سُنَّة إلهية عامّة في خلقه ، ولا يخرج عن هذه السُنَّة الكونية إلا ما كان من باب الإعجاز التي أسبابها خاصّة ومفاتحها بيد الله عزّ وجل لأنَّها من الأمور الخارقة للعادة فيستعملها لغايات وأهداف رسالية لهداية الناس واثبات الحق وتدعيم الأنبياء والرسل وأوصيائهم وتقوية حججهم اضافة إلى تعجيز الطغاة والمستكبرين والانتقام منهم ، فيتصرف في الأشياء بحسب عدله وحكمته كيف يشاء ومتى يشاء حيث يقول للشيء كن فيكون .


وعموماً فإنَّ الفيروس - كورونا- المستجد الذي أصبح وباءً عالمياً سواء كان منشأه إلهي أم كان مُصَنَّعاً بشرياً لدواعي سياسية واقتصادية وحرب بيولوجية لا يخرج في تأثيره السلبي على الإنسان عن قانون السببية ليُصيب كل مَن اتصل به ، ويكون سبباً في مرضه كما هو تأثير ضربة السيف ، وشرب السم ، والسقوط من شاهق ، والارتماء في البحر مع عدم معرفة السباحة ، والدخول في وسط النار ، والذي يؤدي ذلك كلّه بالإنسان إلى الضرر البالغ أو الموت بحسب السنن الكونية الطبيعية سواء كان عالماً بذلك أم جاهلاً ، مؤمناً كان أم كافرا ، ومن هنا لا يخرج تأثير المرض على بدن النبي أيوب عليه السلام عن هذا القانون الطبيعي ، وكذا تأثير السُّم على بدن الرسول الأعظم صلى الله عليه وآله وسلم ، كما أثَّر ذلك أيضاً على أبدان الكثير من أئمة أهل البيت عليهم السلام ، ولا يغفل أحدٌ من الناس تأثير ضربة السيف على رأس أمير المؤمنين عليه السلام ، وكذا على جسد الإمام الحسين عليه السلام ، وهكذا حال مرض الإمام زين العابدين عليه السلام ، والشواهد كثيرة في هذا المقام ، حيث تعرض بدن النبي صلى الله عليه وآله وسلم إلى الجروح والإدماء حينما رُمي بالحجارة ، كما كُسرت رباعيته في معركة أحد ، بل رمي بدنه الطاهر أيضاً بالنجاسة والخبائث ، ولأجل ذلك كان يلجأ إلى التداوي وتطهير الملابس والبدن بحسب ما يقتضيه السبب ، ولا غرابة من تأثير هذا الواقع الذي يصيب المعصوم وغيره لأنَّه يجري فيهم وفي غيرهم وفق الأسباب الطبيعية إلا إذا وجد مانع من جريانه كما في المعجز لتكون النار برداً وسلاماً كما في النبي إبراهيم عليه السلام حينما رمي بالمنجنيق وسط نار عظيمة ملتهبة إلا أنَّ هذا المعجز الذي يتخطى الأسباب الطبيعية لا يحصل لكل الناس وإن كانوا مؤمنين ، كما لا يتكل المعصوم على حصول المعجز في تعاملاته الحياتية إلا في موارد خاصّة جداً يرجع تقديرها إلى الخالق العظيم وخصوصاً فيما يتوقف على اثبات الرسالة ومنصبي الرسول والإمام لتتم بذلك الحجة البالغة على الخلق.
وعليه حينما يُقال عن تأثير هذه الأسباب المختلفة في المعصومين بما يؤدّي إلى ضررهم أو موتهم فهذا لا يعني الانتقاص من مقامهم الكريم لأنَّ هذه الأسباب المادّية الحسّية لا تؤثر سلباً على المقامات المعنوية ولا تُسيء لها لأنَّهم طاهرون ، مطهرون ، معصومون ، وإنْ أثَّرت على أبدانهم الطاهرة بمقتضى الأسباب الطبيعية كما هو ثابت بالوجدان ، فضلاً عن تأثير ذلك على مراقدهم المُشَرَّفة التي لم تسلم من عبث العابثين والمخربين والسارقين وعروض النجاسات عليها كالدماء ودخول الكافرين مما يتوجب إزالة ذلك ، وهكذا الحال بشأن الفيروسات التي يحملها الإنسان والتي تنشر العدوى فيحتاج لذلك استعمال التعفير والمعقمات لمكافحة هذه الأسباب الدخيلة الضررية كما يستوجب محاربة الأعداء الذين يسعون لتهديم هذه المراقد بتهيئة الأسباب من العُدّة والعدد ، بلا فرق في ذلك إلا بالوسائل والآليات ، كما قد جرت  العادة في مسح الكعبة المُشَرَّفة وعموم المراقد بالطيب ورشها بالروائح الزكية ، وهذه الأساليب المتبعة لا ينبغي أن يستنكرها الناس لأنَّها مما تتوافق مع العلم والدّين بل هي من مقتضيات الفطرة كما لا يصح أن تكون سبباً في زلزلة عقيدة المؤمنين أو تُثير لديهم الشبهات والتشكيكات لأنَّ ما كان عارضاً وطارئاً يزول بزوال سببه وهو ليس بأعظم مما جرى على المعصومين حال حياتهم صلوات الله عليهم . 
إذن فالمقتضي للعدوى ونشر الفيروسات واتساع دائرة المرض والضرر موجود وهو التجمعات والاختلاط ، وأمَّا المانع من جريان عمل المقتضي مفقود لأنَّ الاتكال على عقيدة مخالفة لقانون السببية تكون وهماً وسراباً بدليل مخالفتها للوجدان الثابت علمه بالضرورة لوقوع الموت الذريع بين الناس على مستوى العالم وبمختلف الأزمان الذي لا يُفَرِّق بين المؤمن والكافر إلا إذا قلنا بأنَّ المانع هو أمر اعجازي ، وهذا شيء لم يحصل قطعاً ، ولو سَلَّمنا جدلاً بوجود المعجز أو لا أقل الكرامة فهو لا يشمل جميع الناس وإن كانوا مؤمنين ،  فانتبهوا ، واحذروا من الوقوع في الفتنة والتغرير بالجهل.
ومن هنا كان لابد من التعامل مع فيروس كورونا وأمثاله على وفق الضوابط والموازين العلمية والإيمانية ، بحيث نقول لمن يعتمد الحجة العلمية حصراً بأنَّ القواعد الطبّية والوبائية المعتمدة عالمياً تُقرّر ضرورة تجنب التجمعات والاختلاط سواء كانت اجتماعية أم سياسية أم دينية أم تجارية أم تعليمية أم غيرها مع ضرورة التوقي من هذا الوباء باستعمال المعقمات وما إلى ذلك ؛ لأنَّ هذا الفيروس يُسَبِّب العدوى وقد صار وباءً عالمياً لانتشاره السريع وتأثيره الضرري على الإنسان فرداً وجماعة حتى أدّى إلى جائحة بشرية وكارثة عامة على مستوى العالم فتسبَّب بتعطيل الحياة الاجتماعية والاقتصادية نتيجة حجر مدن ودول وعشرات الملايين من الناس وإصابة عشرات الآلاف مع موت الآلاف وهو ما زال في تمدد وتوسع ، ولذا حذّرت منظمة الصحة العالمية والأطباء والمختصون بالأوبئة من خطورته ، وكانت من ضمن الاجراءات الوقائية أن تمَّ ايقاف رحلات الطيران وغلق الكثير من حدود الدول مع تعطيل المؤسسات التعليمية ودوائر الدولة بل فرض منع التجوال في كثير من البلدان لتصبح الحياة مُعَطّلة، وقد صارت مدنها المزدحمة خالية من البشر لتكون أشبه بمدينة الأشباح .
وأمَّا مَن يعتمد الحُجّة الدينية حصراً بعد تسليمه بظاهر قوله تعالى : [قُلْ لَنْ يُصِيبَنَا إِلَّا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَنَا هُوَ مَوْلَانَا وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ ] التوبة / 51 ، وهذا معناه أنَّه ما يُصيبنا من خير أو شر ، أو حسنة أو سيئة فهو مكتوب علينا ولا مهرب منه في حال امتثلنا أوامر الله تعالى في الجهاد في سبيله وهو ما اختاره لنا ، وهذا بخلاف ما يختاره الإنسان ويُقْدِم عليه من دون أن يستند إلى حجة شرعية فيكون كمن ألقى بيده إلى التهلكة وعرّض نفسه إلى الخطر والضرر بسوء اختياره وتقديره للأمور ، ولذا يختلف الحال بين ما يختاره الله لنا فنتبعه وبين ما يختاره الإنسان من دون حجة شرعية معتبرة فيقع في الضرر والإضرار فيترتب عليه بحسب نوع الضرر من ضمان أو ديّة أو قصاص ، ولذا فالنصوص الدينية كما هو ادراك العقل أيضاً يوجب دفع الضرر المحتمل فضلاً عن المؤكد ، وحينئذٍ يجب حفظ النفس ويحرم تعريضها للضرر والهلاك ولو كان محتملاً ، وهذا ما دعت إليه المرجعيات الدينية ، بل وجميع العقلاء ، فصاروا يُحَذِّرون الناس في هذا الوقت العصيب من التجمعات الدينية والسياسية وغيرها لوجود الوباء وتفشي العدوى .
ولذا فمن يؤمن بالعلم حصراً وقوانين الطبيعة فإنَّ ايمانه يفرض عليه متابعة المختصين الذين يُحذِّرون وفق الأسباب التكوينية من العدوى والوقوع في الضرر أو الموت مما ينبغي عليه أن لا يحضر التجمعات ، ومن يُخالف منهم ذلك فلا يخلو حاله عن كونه جاهلاً أو متجاهلاً ، وكلاهما يقعان بالضرر والإضرار. 
ومَن كان يلتزم جانب الإيمان حصراً في سلوكه ومواقفه ويحضر التجمعات الدينية وغيرها في الوقت الذي ينتشر فيه الوباء اتكالاً على ايمانه وتحصنه من الوباء والشرور بالدعاء وببركة ما يقصده ويعتقد به ، فإنَّ هذا الإيمان وحده لا يكفي وإن كان بضميمة الدعاء ؛ لأنَّ المانع من الضرر إنَّما هو أمر مركب من اجتناب الضرر بالتوقي منه ومكافحته مصحوباً ذلك بالدعاء مع الإيمان بالسلامة من الوقوع في الضرر لينال التسديد والتوفيق ، وإلا لا يُعقل لمن لا يعرف السباحة أن يرمي نفسه في البحر ايماناً منه بأنَّ الدعاء وحده يُنجيه من الغرق ، أو أن يترك الأعرابي ناقته من دون أن يعقلها متوكلاً في ذلك على الله في حفظها إلا أنَّ الرسول صلى الله عليه وآله وسلم قال له : ( اعقلها وتوكل على الله ) ، أو أن يأتيه الرزق بالدعاء فقط من دون أن يسعى لطلبه بالعمل ، فقد ورد عن الإمام الصادق عليه السلام أنَّه قال : ( أربعة لا تستجاب لهم دعوة : رجل جالس في بيته يقول : اللهم ارزقني ، فيُقال له : ألم آمرك بالطلب ؟ ) . بمعنى ضرورة اعتماد الأسباب الطبيعية في ذلك ؛ لأنَّ الدعاء لا يكون بديلاً عن السعي والعمل ، وأنَّ تأثيره لا يكون بنحو العلّة التامّة لتحقق الرزق ، ولذا لا يُجاب إلى مطلبه ، ومنها فرار أمير المؤمنين عليه السلام من قضاء الله إلى قدره بشأن ابتعاده عن الحائط المائل الآيل للسقوط كما روى الأصبغ بن نباته: إن أمير المؤمنين عليه السلام عدل من حائط مائل إلى حائط آخر فقيل له يا أمير المؤمنين أتفر من قضاء الله؟ قال عليه السلام :(أفر من قضاء الله إلى قدر الله عز وجل)، فالقضاء هو أمر الله وحكمه في أن سقوط الحائط على الإنسان مما يؤدي إلى ضرره أو موته وفق الأسباب الطبيعية التي خلقها الله تعالى ، ولذا ينبغي أن يحذر الإنسان من هذا القضاء ويفر إلى قدر الله المكتوب عليه. 
وهكذا الحال بشأن الوباء فإنّ الرسول صلى الله عليه وآله وسلم قد بَيَّنَ تأثيره وفق الأسباب الطبيعية ولذا قال عنه : ( إذا سمعتم به بأرض فلا تقدموا عليه ، و إذا وقع بأرض و أنتم بها فلا تخرجوا فرارا منه ). بمعنى يجب التوقي من الوباء ومكافحته بالطرق والوسائل العلمية مُضافاً إلى الدعاء لطلب المدد والعون الإلهي في التسديد والتوفيق للنجاح في هذا المسعى ، وعليه فالدعاء لا يعني ترك العلل والوسائل الطبيعية ولكن لو انسدت الطرق وأعيتنا تلك الوسائل فحينئذٍ ينحصر الأمر بالدعاء والوسائل الغيبية التي هي صلة روحية وعبادية مطلوبة على كل حال في الشدّة والرخاء ، وإدراكاً بأن الله سبحانه وتعالى أرحم بعباده من أنفسهم فإذا ما انقطعت بهم السبل فإنه ببركة استغفارهم ودعائهم وتضرعهم إليه بإخلاص فإنه سيخلق لهم الأسباب من غير سبب ليتخذوها سبيلا لنجاتهم كما ورد في الدعاء( اللهم يا سبب مَنْ لا سبب له، يا سبب كل ذي سبب، يا مُسَبّب الأسباب من غير سبب سبِّب لي سبباً لن أستطيع له طلبا )،( ذلّت لقدرتك الصِعاب، وتسبَّبت بلُطفك الأسباب )، والله سبحانه وتعالى هو الخالق القادر على كل شيء، وهذه الآثار وأمثالها تدل على وجوده وقدرته حيث تخضع لإرادته كل الأشياء سبحانه وتعالى .
وهذا مما يتوجب على المؤمن اعتقاده والالتزام به ، ولذا لا ينبغي الافراط أو التفريط في ايماننا أو سلوكنا ، وأن لا تتغلب العاطفة على المسلكية العلمية والمعتقدات الدينية فنخرج بذلك عن الضوابط والموازين المنهجية السليمة.  
يا عباد الله اتقوا غضب الله وأصلحوا أنفسكم وأهلكم ، ولا تُفسدوا في الأرض بعد اصلاحها فإنَّ البلاء عظيم والوباء جسيم والاحتراز واجب فلا تستخفوا بهذا الجرم الصغير الذي لا يُرى بالعين المجردة فإنَّه خطير ، وعودوا إلى دينكم ولا تغرنكم الأموال والمناصب والوعود الزائفة والشعارات البرّاقة الخادعة ، ولا تكونوا ضحية الجهل والمصالح الضيِّقة الزائلة وحكّموا عقولكم وضمائركم في ولاءاتكم وانتماءاتكم وأعمالكم ، فإنَّ الفساد المالي والإداري والأخلاقي والانحراف العقائدي والظلم وقتل النفس المحترمة من الأسباب الموجبة لغضب الجبّار ، فارجعوا إلى دينكم وحافظوا على المبادئ والقيم والأخلاق فإنَّ الوباء بلاء وإنذار ، وهو ليس أقل خطراً من فساد الطبقة السياسية وظلمها وإجرام الدواعش ، وهو كما قال تعالى : [وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الْأَمْوَالِ وَالْأَنْفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ * الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ * أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ] البقرة / 155 - 157 .
ونسأل الله تعالى أن يدفع عنّا وعن جميع المؤمنين والمؤمنات ومستضعفي العالم السوء والبلاء والوباء ومضلات الفتن إنّه أرحم الراحمين ، وأن يُعجِّل فرج ولينا ومولانا وإمامنا الحجة بن الحسن صلوات الله عليه وأن يجعلنا من أنصاره وأتباعه والذابّين عنه والراضين بفعله والمُسَلِّمين لأمره والمستشهدين بين يديه في جملة أوليائه بحق محمد وآله أجمعين .  

أبو الحسن حميد المقدّس الغريفي 
النجف الأشرف
26 / رجب الأصب / 1441 هـ 
22 / 3 / 2020 م 

فيروس كورونا بين العلم والإيمان

مواضيع قد تهمك

0 تعليق

تنبيه
  • قبل كتابتك لتعليق تذكر قول الله تعالى: ((ما يلفظ من قول الا لديه رقيب عتيد))
  • شكرا لك