26‏/6‏/2025

ابو زينب

سؤال حول الاضراب عن الطعام

سماحة آية الله الفقيه السيد حميد المقدس الغريفي (حفظه الله)
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته..  
سيدي الفاضل، يُطرح في الفقه المعاصر سؤال عن حُكم الامتناع عن الطعام والشراب لتحقيق مصلحة راجحة، كرفع الظلم عن النفس أو الآخرين، فيما يُعرف بـ"الإضراب عن الطعام". تُعد هذه الوسيلة إحدى أدوات التعبير السلمي التي يلجأ إليها المظلومون والمعتقلون والأسرى لفضح الانتهاكات، ونيل الحقوق، وكشف جرائم التعذيب والاضطهاد أمام الرأي العام المحلي والدولي. وقد برز هذا الجدل بقوة في السنوات الأخيرة مع إضراب الأسرى الفلسطينيين في سجون الاحتلال الإسرائيلي، الذي أحدث تأثيرًا إعلاميًا واسعًا، وأثار تساؤلاتٍ شرعيةً عميقة حول مشروعية هذه الخطوة وكذلك هناك صور مشابهة لذلك في السجون العراقية وغيرها من بلدان العالم .   
السؤال :  
ما الحكم الشرعي للإضراب عن الطعام؟ وهل يُعدّ المُضرب مُقدمًا على انتحارٍ محرّم إن أدى الإضراب إلى وفاته؟ وما التكييف الفقهي للإضراب كوسيلة ضغطٍ على على الحكومات أو إدارة السجون : وهل هو مقاومة مشروعة أم إيذاء للنفس محظور؟ وإذا انتهى الإضراب بالوفاة، فهل تُعتبر هذه الشهادة في سبيل الله، أم تدخل في نطاق الانتحار المُحرّم الذي ورد النهي الشديد عنه في الشرع، حتى عدّه من كبائر الذنوب؟

[ ايهاب ال جواد الغريفي ]

الجواب/
وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته
لم يثبت في الكتاب والسنة وسيرة المعصومين عليهم السلام ما يدل على مشروعية الإضراب عن الطعام حتى الموت أو ما يؤدي إلى إتلاف عضو؛ لممارسة الضغط على الآسرين من أجل تحقيق بعض المطالب المشروعة؛ لعدم رجحان تلك المطالب مهما عظمت على حفظ النفس الإنسانية، بل يتحمل المُضرب عن الطعام مسؤولية قتل نفسه أو إتلاف عضو من أعضاء جسده، وهو ليس من القتل في سبيل الله كالجهاد حيث لا يُطاع الله من حيث يُعصى، بل هو من ظلم الإنسان لنفسه بعد فقدانه الصبر، كما أنه تصرف في نفسه بغير ما يريد لها المالك الحقيقي وهو الله سبحانه وتعالى، فيكون من قتل النفس بغير نفس وهو فساد معلوم مما ثبت قطعاً النهي عنه شرعاً وعقلا، حيث قال تعالى : (وَلَا تَقۡتُلُوٓاْ أَنفُسَكُمۡۚ إِنَّ ٱللَّهَ كَانَ بِكُمۡ رَحِيمٗا) النساء / ٢٩. 
وقوله تعالى :( وَلَا تَقۡتُلُواْ ٱلنَّفۡسَ ٱلَّتِي حَرَّمَ ٱللَّهُ إِلَّا بِٱلۡحَقِّۚ ذَٰلِكُمۡ وَصَّىٰكُم بِهِۦ لَعَلَّكُمۡ تَعۡقِلُونَ) الأنعام/ ١٥١. 
وقوله تعالى : (وَلَا تَقۡتُلُواْ ٱلنَّفۡسَ ٱلَّتِي حَرَّمَ ٱللَّهُ إِلَّا بِٱلۡحَقِّۗ وَمَن قُتِلَ مَظۡلُومٗا فَقَدۡ جَعَلۡنَا لِوَلِيِّهِۦ سُلۡطَٰنٗا فَلَا يُسۡرِف فِّي ٱلۡقَتۡلِۖ إِنَّهُۥ كَانَ مَنصُورٗا) الإسراء/  ٣٣. 
إذن عمومات الأدلة ومطلقاتها ثابتة في الحرمة، كما أن الأدلة الخاصة مانعة من تعريض النفس للموت من أجل مطالب محتملة التحقق حيث لا رجحان لما هو محتمل وهو الخروج من الحبس والأسر أو تحقيق بعض المطالب على ممارسة الإضراب عن الطعام بما يُحتمل معه الموت أو إتلاف عضو.
فالنبي يوسف عليه السلام والإمام موسى بن جعفر عليهما السلام تعرضا للسجن الظالم والعنيف مع ما يحملان من رسالة عظيمة إلا أنهما صبرا ولم يسلكا مسلك الإضراب لأجل الخروج من السجن أو تحقيق بعض المطالب، كما أن النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم حينما حوصر من قبل قريش مع أهله وأقربائه وبعض أصحابه في شِعب أبي طالب رضوان الله عليه لم يجزع ورفض أن يستسلم للموت بل كان منه السعي الجاد والحثيث لتوفير الماء والطعام لإدراكه بوجوب حفظ النفس ودفعا لما يُحقق أهداف الأعداء من التخلص منهم.
إذن حفظ النفس والحرص على سلامةأعضاء الجسد واجب لا ينبغي التفريط به رجاء مطالب معينة وإن كانت محقة.
ولكن لا مانع من استعمال الإضراب عن الطعام وفق شروط معينة، منها :
أولا : أن يكون الإضراب مشروعاً ومحدوداً ومؤثراً في تحقق الهدف أكيداً وليس احتمالاً. 
ومن المعلوم وجداناً أنّ الإضراب المفتوح قد لا يتم السيطرة عليه فيؤدي إلى الموت أو الجلطات الدماغية أو القلبية أو انهيار قوى البدن بسبب عدم التغذية من دون الوصول إلى الهدف وهو تحقق المطالب . 
ثانياً : أن لا يمتنع نهائياً عن الأكل والشرب بطريقة تؤدي به إلى الموت أو الضرر البالغ. 
ثالثاً : أن يُستثمر الإضراب في طاعة الله تعالى عن طريق تحويله إلى عبادة بعقد نية الصيام قربة إلى الله تعالى مع الإفطار قليلا وقت الغروب بما يمنع من وقوع صوم الوصال المنهي عنه في الشريعة، وبعد الإفطار  يتم الإمساك ليلاً عن الطعام والشراب، حتى إذا جاء وقت السحور تناول وجبة طعام قليلة ثم يتم الإمساك قبيل الفجر، وهكذا يتكرر العمل وصولا إلى الحد الذي لا يجوز تعديه إذا خشي على نفسه الهلاك  أو إتلاف عضو.
وإذا كان صوم الوصال منهياً عنه شرعاً فمن باب أولى يكون الإضراب عن الطعام   منهياً عنه لشدة خطورته وضرره. 
و مع عدم مراعاة هذه الشروط يكون الإضراب محرماً، والموت بسببه انتحاراً وهو قتل للنفس. 
إذن حفظ النفس من الضرورات والمقاصد الكلية المتفق عليها فلا يجوز تعريضها للخطر والتهلكة بذريعة احتمال تحقيق مطالب، وإنما الواجب في ذلك الإيمان والصبر واتخاذ وسائل مشروعة، فليس كل ما لا يطيقه الإنسان من الحبس والظلم والجراحات والآلام يبيح له ما يؤدي إلى الموت دفعة أو تدريجياً. 
فتعريض النفس للموت دفعة وهو الانتحار بأبرز صوره كما فعله الصحابي قرمز  المذكور فعله في صحيحي البخاري ومسلم وغيرهما حيث فقد صبره من آلام الجراح الناجمة عن خوضه المعركة مع المسلمين، فلم يتحمل ذلك فعمد إلى قتل نفسه، فصار من أهل النار كما صرح بذلك رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم. 
وأما التدريجي فهو ما يفعله المُضرب عن الطعام كما يفعله بعض الأسرى الفلسطينين في سجون الاحتلال الإسرائيلي.

أبو الحسن حميد المُقَدَّس الغريفي
النجف الأشرف
٢٩/ ذو الحجة / ١٤٤٦ هجري

سؤال حول الاضراب عن الطعام

مواضيع قد تهمك

0 تعليق

تنبيه
  • قبل كتابتك لتعليق تذكر قول الله تعالى: ((ما يلفظ من قول الا لديه رقيب عتيد))
  • شكرا لك