12‏/3‏/2024

ابو زينب

انتبهوا أيها الشباب

انتبهوا أيها الشباب
مجموعة نصائح وتوصيات لسماحة آية الله الفقيه السيد أبو الحسن حميد المقدس الغريفي (دام ظله)

        حينما نهتم بالشباب فهذا لا يعني إهمال الفئات العمرية الأخرى، ولكنَّ مرحلة الشباب لها خصوصياتها باعتبار أنَّهم طاقة نامية نشطة كالأرض البكر الخالية الصالحة للزراعة والإنتاج، وتستقبل ما يُملى عليها، وتحصد منها ما زرعته فيها، وبما أنَّ الشباب في طور النمو الجسدي والعقلي والنفسي؛ لذا لابد أنْ نعتني بجميع هذه الأطوار لتحقيق النمو الصالح والعادل، فكما نهتم لنمو أجسادهم بتوفير ما ينفعهم من الطعام والشراب الصحّي والطيب، كذلك تحتاج عقولهم لتغذيتها بالمبادئ والقيم والأخلاق والعلوم والمعارف الرصينة، ولا يكفي ذلك حتى يتم تغذية النفس والروح بما يبعث فيها الإيمان والاطمئنان والاستقرار ليحصل التوافق والاعتدال بين الذات وفعله الخارجي، والإيمان والعمل، والفكر والسلوك، حتى نجني من الشباب الثمار الطيبة في الدنيا والآخرة. 
إذن لابد من العمل الجماعي بين الأسرة والمؤسسة التعليمية والبيئة المجتمعية والإدارة الحكومية لاستثمار هذه الطاقة الشبابية باكتشاف مواهبهم، وتنمية قدراتهم البدنية والعلمية، وتوظيف مهاراتهم، وتشجيعهم على الإبداع والإنتاج؛ لكيلا يعيشوا حالة الفراغ والإحباط والضعف بحيث تراودهم الأفكار السلبية والمنحرفة، وبالتالي يكونوا لقمة سائغة بيد الجهلة والضالّين والأعداء، فبدل من أنْ نستفيد منهم كقوة بشرية فاعلة ومؤثرة إيجاباً في الأمَّة، نكون قد خسرناهم ليُصبحوا مصدر قلق وإرباك وفوضى وضرر ومرض ينخر في جسد الأمة ويُضعفها ويُعرضها للأزمات والنكبات على مختلف الصُعُد؛ ولذا فالوقاية خير من العلاج؛ لأنَّ العلاج قد يتأخر وربما لا يكون ناجعاً، كما يأخذ منهم وقتاً ويصرف منهم جهداً ويُكلّفهم مالاً  ويؤخر حالة التقدم والتطور والازدهار.   
فالشباب إشراقة أمل ومستقبل واعد ونشاط متجدد وعطاء دائم إذا ما تمت تربيتهم ورعايتهم وإعدادهم وفق أسس علمية وتربوية رصينة؛ ولذا اهتم بهم الإسلام كثيراً، وأثنى على مَنْ وجدَ فيهم الاستعداد والأهلية للإيمان والهداية وإقدامهم بجد وإخلاص على ذلك كما في فتية أصحاب الكهف حيث قال تعالى (1): [ إِذْ أَوَى الْفِتْيَةُ إِلَى الْكَهْفِ فَقَالُوا رَبَّنَا آَتِنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً وَهَيِّئْ لَنَا مِنْ أَمْرِنَا رَشَدًا * فَضَرَبْنَا عَلَى آَذَانِهِمْ فِي الْكَهْفِ سِنِينَ عَدَدًا * ثُمَّ بَعَثْنَاهُمْ لِنَعْلَمَ أَيُّ الْحِزْبَيْنِ أَحْصَى لِمَا لَبِثُوا أَمَدًا * نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ نَبَأَهُمْ بِالْحَقِّ إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ آَمَنُوا بِرَبِّهِمْ وَزِدْنَاهُمْ هُدًى]، وكذا ما جرى على الفتى يوسف (عليه السلام) رغم الإغراءات الكبيرة والتهديد والوعيد والحبس إلا أنَّه لم يخضع لمغريات الدنيا ولم يخشى وعيد أهلها وحافظ على طهارته وإيمانه، فجزاه الله جزاء المحسنين، حيث قال تعالى (2) : [وَقَالَ نِسْوَةٌ فِي الْمَدِينَةِ امْرَأَةُ الْعَزِيزِ تُرَاوِدُ فَتَاهَا عَنْ نَفْسِهِ قَدْ شَغَفَهَا حُبًّا]، وقال تعالى (3):[وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ آَتَيْنَاهُ حُكْمًا وَعِلْمًا وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ]، وغيرها من الآيات التي تكشف عن واقع جملة من الصبيان والفتيان الذين آتاهم الله الكتاب والحكمة لثبوت أهليتهم ليكونوا قادة الأمم.
ومن هنا نجد أنَّ الرسول (صلى الله عليه وآله) قد أوصى بالشباب؛ لأنّهم أرض خصبة وأسرع إقداماً في تقبل الأفكار لرقة قلوبهم وصفاء عقولهم حيث روي عنه (صلى الله عليه وآله) أنَّه قال (4):" أوصيكم بالشبان خيراً ثلاثاً فإنهم أرق أفئدة ألا وإن الله أرسلني شاهداً ومبشراً ونذيراً فخالصني (حالفني) الشبان وخالفني الشيوخ، ثم قرأ: فطال عليهم الأمد فقست قلوبهم ".
ومن وصية أمير المؤمنين لولده الحسن (عليهما السلام) (5): " وإنما قَلْبُ الحَدَث (الشاب) كالأرض الخالية ما ألقي فيها من شيء قبلته فبادرتك بالأدب قبل أن يقسو قلبك ويشتغل لبك لتستقبل بجد رأيك من الأمر ما قد كفاك أهل التجارب بغيته وتجربته، فتكون قد كفيت مؤونة الطلب وعوفيت من علاج التجربة فأتاك من ذلك ما قد كنا نأتيه واستبان لك منه ما ربما أظلم علينا فيه".
ومن وصية الإمام الصادق (عليه السلام) إلى أبي جعفر الأحول في نشر مبادئ الإسلام وتعاليم أهل البيت (عليهم السلام)، حيث قال (6) : " عليك بالأحداث فإنَّهم أسرع إلى كلّ خير".
وعن أبي قتادة، عن أبي عبد الله (عليه السلام)، أنَّه قال (7):" لست أُحِبُّ أن أرى الشاب منكم إلا غاديا في حالين: إما عالما أو متعلما، فإن لم يفعل فرّط، فإنْ فرّط ضيّع، وإنْ ضيَّع أثِم، وإنْ أثِم سكن النار، والذي بعث محمدا (صلى الله عليه وآله) بالحق ".
وعن محمد بن مسلم قال (8) : قال أبو عبد الله وأبو جعفر (عليهما السلام): " لو أتيت بشاب من شباب الشيعة لا يتفقه لأدبته ".
فالاهتمام بالشباب إنما يكون بدافع أداء الرسالة والهداية والحفاظ على استقامة الثروة البشرية ونتاجها النوعي الذي يصب في مصلحة الأمة؛ ولذا يكون الشاب الصالح المطيع قرّة عَيْنٍ لأسرته ومجتمعه وبلده، في حين يجلب الشاب الفاسد الحزن والمهانة والضرر لأسرته ومجتمعه وبلده. 
فانتبهوا لأنفسكم أيها الشباب من التيه والضياع والانحراف، واغتنموا شبابكم كما ورد في وصية النبي (صلى الله عليه وآله) لأبي ذر الغفاري (رضي الله عنه) حيث قال (9): " يا أبا ذر اغتنم خمسا قبل خمس: شبابك قبل هرمك، وصحتك قبل سقمك وغناك قبل فقرك، وفراغك قبل شغلك، وحياتك قبل موتك"، ومما روي عن الإمام الصادق (عليه السلام) في وصية لقمان لابنه وهو يعظه حيث قال (10): واعلم أنك ستُسأل غدا إذا وقفت بين يدي الله عز وجل عن أربع: شبابك فيما أبليته، وعمرك فيما أفنيته، ومالك مما اكتسبته وفيما أنفقته، فتأهب لذلك وأعد له جوابا ".    
وإنَّها لتذكرة عظيمة لابد من الاهتمام بها ومراعاتها وخصوصاً قد أتانا شهر الخير والرحمة والمغفرة وهو شهر رمضان الفضيل الذي ينبغي أن يستثمره الناس في بناء أنفسهم وأهليهم وتقويم سلوكهم والتقرب إلى الله تعالى في أعمالهم، فإنَّه فرصة لا ينالها إلا ذو حظ عظيم.
وأمَّا الآباء فتقع عليهم المسؤولية الأولى والأهم في تربية أولادهم ورعاية شؤونهم ومتابعة تحركاتهم وعلاقاتهم ليتجنبوا المساءلة والعقاب في الدنيا والآخرة، ولا يجوز لهم شرعاً ومن القبيح عقلاً الدفاع عن أخطاء أبنائهم وانحرافاتهم وخَلْق الذرائع الواهية لهم، فقد قال تعالى (11) : [يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ عَلَيْهَا مَلَائِكَةٌ غِلَاظٌ شِدَادٌ لَا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ]، وروي عن الرسول (صلى الله عليه وآله) قوله (12): " كلكم راع وكلكم مسؤول عن رعيته".
وأغلب ما نجده من فساد الأبناء وعقوقهم إنَّما يكون بسبب انحراف الآباء أو تقصيرهم وإهمال تربيتهم، فلم يكن الولد عاقاً ومنحرفاً من تلقاء نفسه وإنما لسوء تربيته وسوء أصحابه وبيئته، فلا يلومَنَّ الإنسان إلا نفسه، وسوف تُسئلون عن ذلك في الدنيا والآخرة.
وبعد هذه المقدمة يُمكن أن نعرض بعض الوصايا العامة التي يستفيد منها الناس في حياتهم وتُنجيهم من مساوئ الدنيا ومهالك الآخرة.

الوصيّّة الأولى:
نحن أُمَّةٌ مأمورة بالقراءة والتّعلُّم وتزكية النفس؛ ولذا ينبغي على الشّباب بهممهم العالية أن يكونوا قدوةً في ذلك؛ ليكسبوا مهاراتٍ جديدةٍ وقدراتٍ راقيةٍ وخَلْق فُرَص عمل تُناسبهم وتُلَبِّي طموحاتهم؛ لأنَّ العلم والوعي والإرادة الجادَّة تفتح آفاقاً واسعة في الحياة من دون الاتكال السلبي على الآخرين والذي يُعَرِّضهم للمذلّة والابتزاز على حساب الكرامة والدِّين.
وقد ذكر الله تعالى في كتابه العزيز آيات كثيرة تهتم بجانب القراءة والعلم وتزكية النفس وما إلى ذلك، حيث ابتدأ نزول القرآن الكريم بالأمر بها، فقال تعالى (13): [اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ * خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ * اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ * الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ * عَلَّمَ الْإِنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ]، حتى أنَّ الله عز وجل قد أقسم بالقلم وما يسطرون لعظيم شأنهما، فقال تعالى (14): [ن وَالْقَلَمِ وَمَا يَسْطُرُونَ]، وقوله تعالى (15): [لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آَيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ]، وقوله تعالى (16) : [ وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْمًا].
إذن القراءة والتعلم وتزكية النفس من الأمور الضرورية المطلوبة في حياة الإنسان عقلاً وشرعاً، فلا ينبغي على الشاب التسامح في ذلك والتقصير فيها، كما أنَّ أهم المصادر التي يُمكن اعتمادها في ثقافة الإنسان وتربيته وهدايته هي قراءة القرآن الكريم ، والحديث الشريف الثابت عن العترة الطاهرة ، وكتاب نهج البلاغة ، ومؤلفات العلماء الرساليين الأمناء على الدين والدنيا بما فيها الرسائل العملية لمراجع الدِّين حتى يتفقه في الدين ويتعلم الحلال والحرام.

الوصيّة الثانية:
عليك أيها الشاب أنْ تهتمَّ بالجانب التربويّ؛ لأنَّه عمود الحياة الكريمة، فاحترم نفسَك يحترمك الناس، وارسم خطوط التعامل مع الآخرين وفق التعاليم الشرعية والقيم الأخلاقية؛ لتُحَصِّن نفسك وتكونَ مقبولاً ومحبوباً، ولا تنزل إلى مستوى تُحَرِّكُك الأهواء والغرائز والعصبيّة والمصالح الوقتية، فقد قال الإمام الصادق (عليه السلام) (17): " أحب لأخيك المسلم ما تحب لنفسك، وإذا احتجت فَسَلْه، وإن سألك فأعطه، لا تمله خيرا ولا يمله لك ،كن له ظهرا، فإنه لك ظهر، إذا غاب فاحفظه في غيبته، وإذا شهد فزره وأجله وأكرمه فإنه منك وأنت منه، فإن كان عليك عاتبا فلا تفارقه حتى تسأل سميحته، وإن أصابه خير فاحمد الله وإن ابتلي فأعضده وإن تمحل له فأعنه ".

الوصيّة الثالثة:
ينبغي على الشاب ألا يلتفت إلى الوراء ويهدر طاقاته في التفكير السلبي، بل عليه الُمضي قُدُماً بعزيمة وإصرار نحو تحقيق أهداف مستقبليّةٍ راقية مهما تعرَض لعقبات ووقع في نكسات؛ لأنَّ الحَسْرَة على ما فات لا يجني منها إلاّ الحزن والهَمَّ والألم والإحباط، في حين لابُدَّ عليه أنْ يستفيد من تجاربه الفاشلة لتكون سبباً مُحَفِّزاً لتحقيق النجاح والتقدم والتطور والازدهار.

الوصيّة الرابعة:
ينبغي على الشّاب أن يجعل علاقاته وأعماله ذات ارتباط وثيق بالله تعالى؛ لأنَّ من أوثق عُرى الإيمان الحُبَّ في الله والبُغضَ في الله والعطاءَ في الله والمنعَ في الله؛ ليكون على توحيد خالص لله تعالى بعيداً عن الأنانية والحزبية والروح العصبية والمصالح الشخصية الضيِّقة التي ينفرط عقدها بأدنى مشكلة وأزمة، حيث لا ترتبط بآصرة قوية وعروة وثيقة، فيكون أوثق رباط يُمكن التمسك به هو الله عزّوجل وكتابه ورسوله والعترة الطاهرة.

الوصيَّة الخامسة:
ينبغي على الشباب أنْ لا ينشغلوا عن مهمات الدنيا والآخرة باللهو واللعب، بل عليهم أن يكونوا لاعبين متميزين في دروب الحياة، ولا نقصد من كلمة "لاعبين" اللهو واللعب بما لا منفعة فيه أو ما يكون وليد الرغبة والشهوة، مما يشغلهم عن ذكر الله تعالى وتحقيق الأماني الهادفة والمشروعة الخاصة والعامة، وإنما نعني تحركهم في أخذ الدور المناسب واللائق للاشتغال بطاعة الله تعالى وفي صنع مستقبلهم بأنفسهم، كما يُمَهِّدون في عملهم لمستقبل زاهر تنعم به الأجيال اللاحقة، وهذه من السُنَن الإيجابية في الحياة.
وأمَّا إذا كان الشاب مُتَفَرِّجاً أو مُشَجِّعاً أو اتكالياً أو مُقَامِراً، ليس له إلا أنْ يتحيز لهذا الفريق أو ذاك من دون أنْ يتخذ دوراً فاعلاً ويُقَدِّم مُنْجَزاً مُتَمَيِّزاً في الحياة؛ فسيُكْسِبُه هذا السلوك صفة المجاملين والمنافقين والعاطلين الذين تحكمهم الأهواء والأمزجة والمصالح الخاصّة؛ ولذا لا يملك هدفاً واضحاً ولا يعيش حياة مستقرة ولا ينتفع منه الأهل والمجتمع.
ومن الشواهد النافعة أنْ نذكر ما حدث ليحيى بن زكريا (عليه السلام) حينما كان صبياً، حيث قال له الصبيان (18): " هلمَّ نلعب. فقال: أوّه، والله ما للّعب خلقنا، وإنَّما خلقنا للجدّ لأمر عظيم".
وما ذكره ابن حجر (19) نقلاً عمّا أورده ابن خلكّان في كتابه الوفيات، أنَّ بهلول رأى العسكري (عليه السلام) وهو صبي يبكي والصبيان يلعبون، فظنَّ أنَّه يتحسّر على ما في أيديهم، فقال: أشتري لك ما تلعب به؟ فقال: يا قليل العقل ما للعب خلقنا، فقال له: فلماذا خلقنا؟ قال: للعلم والعبادة، فقال له: من أين لك ذلك؟ قال: من قول الله عزّ وجل (20) : [أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لَا تُرْجَعُونَ].
فالإنسان لم يُخلَق للهو واللعب وإنما خُلق للعلم والعبادة كما في قوله تعالى (21) : [وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ]، أي يعرفوه ويعبدوه، وعليه لابد أنْ يُدرك الإنسان طبيعة وجوده في الحياة الدنيا، وأنْ يستثمر ذلك في طاعة الله تعالى والأعمال الصالحة التي تنفعه في الدنيا والآخرة.

الوصيَّة السادسة:
من أخطر الأمور التي تواجه الشباب هي قضية العلاقات الاجتماعية والصداقات، والتي ينبغي أنْ تُبنى على أسس إيمانية رصينة وأهداف إنسانية سامية ومعاملة صادقة بعيداً عن النفاق والمصالح الوقتية الخاصة التي تزول بزوال المصلحة؛ ولذا لابد للشاب أنْ يُحْسِن اختيار صديقه وصاحبه؛ لأنَّ الصاحب يُعْرَف بصاحبه، والقرين بقرينه، فاختر الصديق الصدوق، المؤمن، الوفي، المخلص، المؤتمن، وتجنب أصدقاء السوء وتحرَّز منهم خوفاً على دينك ودنياك؛ لأنَّ الصديق المتَّقي يكون سنداً وشفيعاً في الدّنيا والآخرة، بخلاف السيء والفاجر الذي يكون وبالاً ونقمة عليك، وكما قال تعالى (22): [الْأَخِلَّاءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلَّا الْمُتَّقِينَ]، وقوله تعالى (23): [ وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلَى يَدَيْهِ يَقُولُ يَا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلًا * يَا وَيْلَتَى لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلَانًا خَلِيلًا * لَقَدْ أَضَلَّنِي عَنِ الذِّكْرِ بَعْدَ إِذْ جَاءَنِي وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِلْإِنْسَانِ خَذُولًا].
وكما قال عدي بن زيد: 
     إذا كُنْتَ في قَوْمٍ فصاحِب خيارَهُم ... ولا تَصْحَب الأردى فَتَرْدَى مع الرَّدي
    عَـن المَـرْءِ لا تسألْ وَسَلْ عن قريـنــهِ ... فَـكُــلُّ قَـــريــــنٍ بــالمُــقــَارِنِ يَــــقْـــتَــدي 
 وكما قيل أيضاً:
      لا تربط الجرباء حول صحيحة ... خوفاً على تلك الصحيحةِ تجْرَبُ

أضف إلى ما ذكرنا أنَّه من الضرورة بمكان الفصل بين العلاقة والعمل، حيث لا يجوز التسامح والتهاون والإهمال في العمل اتكالا على وجود علاقة وارتباط بين العامل وربّ العمل؛ لأنَّ هذا من الإخلال والاستغلال المُفضي إلى الخصومة والنزاع، وهو منافي لمستحقات الصداقة والإخلاص وأجرة العمل؛ وعليه لا يحق عقلاً وشرعاً وعرفاً للعامل المُصَاحِب لربِّ العمل أنْ يُمارس دوراً عدائياً وانتقامياً إذا ما تخلّى ربّ العمل عن خدماته، فيعمد لذلك بكيل التُهَم والأباطيل والبهتان والتشهير ضدَّه بما يكشف عن زيف علاقته وصداقته وسوء أخلاقه وخبث سريرته وبُعْدِه عن الرجولة والدّين، فاحذروا من 
 الوقوع في مثل هذه العلاقات، ولا تأسفوا ولا تحزنوا على زوالها.
فالصداقة لها حدودها المعتبرة كما روي عن أبي عبد الله الصادق (عليه السلام) (24): " فأولها: أن تكون سريرته وعلانيته لك واحدة، والثانية: أن يرى زينك زينه وشينك شينه، والثالثة: ألا تُغَيِّرُه عليك ولاية ولا مال، والرابعة: أنْ لا يمنعك شيئاً تناله مقدرته، والخامسة: وهي تجمع هذه الخصال: ألا يُسلمك عند النكبات".
وعن أمير المؤمنين (عليه السلام) (25) : " لا يكون الصديق صديقاً حتى يحفظ أخاه في ثلاث: في نكبته وغيبته ووفاته".
وعن أمير المؤمنين (عليه السلام) في وصيته لأبي ذر(رضي الله عنه) (26): " يا أبا ذر: المجالس بالأمانة وإفشاء سر أخيك خيانة".

الوصيّة السابعة:
ينبغي على الشاب الارتقاء بنفسه في تحديد اهتماماته العقلانية وطموحاته الرّساليّة كالقراءة والتّعلّم والتفوق والتقدم العلمي والقيام بالأعمال الصالحة وقيادة المجتمع نحو الخير والصلاح، وهذا إنَّما يَنُمُّ عن عُلُوِّ شأنه وصلاحه واعتزازه بعقله ومقامه وكرامته، بخلاف الشاب الكسلان والمتقاعس أو المُهْتَم كثيراً ببطنه وفرجه، فلا خير في صحبتهم؛ لأنَّها مقرونة بالكسل والبطن والفرج، وإنَّ اهتمامهم البالغ بذلك مما يُضعف عقلانية الروح الإنسانية لديهم ويجعلها في تسافل لتصل إلى مرتبة الروح البهيمية، حتى إذا زالت هذه الأمور وهي أسباب الصُحبة والعلاقة زالت معها الصُحْبَة، وقد ورد عن أمير المؤمنين (عليه السلام) (27) : " مَنْ كانَت هِمَّتُهُ ما يَدخُلُ في بَطْنِه كانَت قِيمَتُهُ ما يَخْرُجُ مِنْهُ". 
وأمَّا الاهتمام البالغ بالفَرْج فهو وإنْ كان أخطر من الاهتمام بالبطن؛ لأنَّ مفاسده أعظم ضرراً على الإنسان والمجتمع، إلا أنَّه قرين الاهتمام بالبطن، كما ورد عن أمير المؤمنين (عليه السلام) قوله (28): " أبعد ما يكون العبد من الله إذا كانت هِمَّتُهُ بطنه وفرجه"، وبلفظ آخر (29) : " أمقت العباد إلى الله مَنْ كان هَمُّه بطنه وفرجه"، فلا خير فيمن هِمَّتُه بطنه وفرجه، حيث تحكمه الأهواء والغرائز، فلا يُبالي بالحلال والحرام، ويبيعك بأكلة وما دونها، ويخونك ويغدر بك من أجل بطنه وفَرْجِه، فهو كالبهيمة هَمّها علفُها وفرجُها. 
ولذا سبب هلاك الكثير من الناس هو حرصهم على هذين الأمرين (البطن والفرج) 
 بشكل مفرط بما يؤدّي إلى تهيجهما وغلبتهما على العقل مع اشغال الخاضع لهما عن مهمات الدارين (الدنيا والآخرة) وإيقاعه في المراتب السفلية والمستويات البهيمية، فيفقد الاتزان والاعتدال والعقلانية، ويُشَكِّل عبئاً ثقيلاً على أسرته ومجتمعه وبلده.
وعليه لابد للشباب من الاهتمام بالأبعاد الإنسانية والملكات العلمية والمعرفية والأعمال الرسالية ليقتدوا بالأنبياء والأوصياء والفقهاء وعموم العقلاء الذين يعيشون حالة الاعتدال والوسطية، ويرتقوا بأنفسهم إلى مراتب العزّة والكمال والاقتدار.

الوصيّة الثامنة:
 ينبغي على الشاب أنْ يُنَشِّط جانب الرجولة والغيرة في نفسه، كما ينبغي على الشابّة تنشيط جانب العفّة والطهارة والأنوثة في نفسها، من أجل أنْ يحتفظ كل منهما بخصوصياته وعنوانه بحسب خِلقَته وتكوينه، فلا يجوز شرعاً ، كما هو من القبيح عقلاً وعرفاً تجاوز الحدود والوصول إلى حالة التخنث والاسترجال، فعملية تأنيث المُذَكَّر وتذكير المؤنث إذا كان النُطق بها غير مقبول ومستهجن في اللغة العربية، فما بال تجسيد ذلك بالتشبه الظاهري والسلوك الخارجي، حيث يتشبّه الرجال بالنساء، والنساء بالرجال في نوع اللباس والتَجَمُّل والزينة وتصفيف الشعر والمنطق والحركات والاختلاط من دون حياء أو خجل أو مراعاة لأحكام الشريعة؛ ولذا لعنهم الله تعالى على لسان رسوله الكريم محمد (صلى الله عليه وآله) ، فلابد للشاب أن يعتز برجولته وأنْ لا ينجرف مع ما يُشاع من سلوكيات منحرفة وما يُسَمّى بالموضة المستوردة من بلاد الغرب والتي مِنْ أهدافها مسخ هويتنا ومخالفة مبادئنا وقيمنا وأخلاقنا، فاحذر أيُّها الشاب على دينك ودنياك من أنْ تكون ملعونا، وأنْ تكون أضحوكة بين الشعوب والأمم، وأنْ تُجَرِّد نفسك من الأهداف العالية والمراتب السامية والطموحات الراقية لتهبط إلى مستوى الانحطاط والرذيلة. 

الوصية التاسعة:
 أيها الشباب وأنتم في زهرة أعماركم لا تلوثوا حياتكم بالخطايا والسيئات والآثام بمصاحبة الظالمين ومعاونتهم ومناصرتهم وترشيحهم والترويج لهم وانتخابهم، فإنَّ العاقبة وخيمة في الدنيا والآخرة، فيسلب الله عنكم التوفيق وتزول البركة والرحمة، ويكون العقاب شديداً، وقد قال تعالى (30) : [وَلَا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ وَمَا لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ أَوْلِيَاءَ ثُمَّ لَا تُنْصَرُونَ].
وعن جعفر بن محمد، عن آبائه  (عليهم السلام)قال (31): قال رسول الله (صلى الله عليه وآله) : " إذا كان يوم القيامة نادى مناد: أين أعوان الظلمة ومن لاق لهم دواة، أو ربط كيسا، أو مد لهم مدة قلم، فاحشروهم معهم ".
وقال أبو عبد الله الصادق (عليه السلام) (32): " لولا أن بني امية وجدوا مَنْ يكتب لهم ويجبي لهم الفيء ويُقاتل عنهم ويشهد جماعتهم لما سَلَبُونا حقنا، ولو تركهم الناس وما في أيديهم ما وجدوا شيئا إلا ما وقع في أيديهم ".
وعن صفوان الجَمَّال إنَّ أبا الحسن موسى (عليه السلام) قال له (33) : كل شيء منك حسن جميل ما خلا شيئا واحدا، قلت: أي شيء؟ قال: إكراؤك جمالك من هذا الرجل - يعنى هارون - إلى أن قال: - يا صفوان أيقع كراؤك عليهم؟ قلت: نعم، قال: أتحب بقاءهم حتى يخرج كراك؟ قلت: نعم، قال: فمن أحب بقاءهم فهو منهم، ومن كان منهم كان ورد النار، قال صفوان: فذهبت فبعت جمالي عن آخرها... الحديث.
فلا تكونوا وسيلة لتقوية الظالمين وتمكينهم من رقاب المؤمنين، فتُشاركوهم في ظلمهم، وتُحشرون معهم في يوم القيامة، كما ورد ذلك عن رسول الله (صلى الله عليه وآله) ، حيث قال جابر بن عبد الله الأنصاري: يا عطية سمعت حبيبي رسول الله (صلى الله عليه وآله) يقول (34) : " مَنْ أحب قوما حُشِر معهم، ومن أحب عمل قوم أشرك في عملهم ".

الوصيّة العاشرة:
تجنبوا أيها الأعزاء من العمل على " صناعة التفاهة " وصيرورتكم " تافهين " من خلال النشر والترويج لمحتويات هابطة وشاذّة ومُنْكَرَة لا قيمة لها في حياة الناس سوى الإساءة وخدش الحياء والاستخفاف بالعقل والخروج عن المعايير الشرعية والعقلانية والأخلاقية، ومَنْ يُمَارِس هذا العمل إنَّما يُهين نفسه ويحتقرها ويضعها تحت المساءلة الشرعية والقانونية، فبَدَل من أنْ يرتقي بنفسه نحو التقدم والتطور والكمال وحفظ الكرامة والفضيلة يكون قد هبط نحو التسافل والانحطاط والرذيلة بأقواله وأفعاله المُحَدِّدة  لقيمته والكاشفة عن اعتباره ومستواه العقلي والإنساني والخُلُقي، وكما قال أمير المؤمنين (عليه السلام)  (35) : " قيمة كل امرئ ما يُحسنه". 
فحذاري من الوقوع في هذه المصيدة الخطيرة التي تُلَوِّث الأفكار وتحرف المسار وتُنتج ثقافة هزيلة ورديئة وعبثية لا تليق بالإنسان وإنْ بُذِلَت إزائها الأموال من قبل شركات ومؤسسات عالمية؛ لأنَّ العقل والشرف والكرامة والدّين من الأمور التي لا تخضع للمساومة والبيع، فاتقوا الله في أنفسكم وأهليكم ومجتمعكم ومستقبل أمّتكم ولا تكونوا عبيداً لأهوائكم ونزواتكم وأطماعكم.
ولابد لكم أعزاءي من تحصين أنفسكم بالثقافة والوعي والأخلاق والدِّين، ولا تُمَكِّنوا التافهين وأسيادهم من العبث بعقولكم وحرف مساركم ومسخ هويتكم واستعبادكم واحتلال بلدكم بالحرب الناعمة وغيرها.

الوصيّة الحادية عشرة:
ينبغي للشاب الجامعي أنْ يكون أكثر شعوراً بالمسؤولية وأشد حرصاً على الجوانب العلمية والمعرفية والتربوية وأعظم اهتماماً ببناء شخصيته ومستقبله حتى يكتسب الطابع الذي يطمح إليه ويتوافق مع استحقاقه، وإلا سيُكَلِّف نفسه وأسرته وبلده خسائر كثيرة مادية ومعنوية، ولا يُحقق الانتماء الأصيل للجامعة وإنْ حاز على شهادة ورقية تُشير إلى كونه قد تخرج منها؛ لانشغاله واقعاً باللهو والعبث والعلاقات الوهمية من دون أنْ يلتفت إلى أنَّ الجامعة تُمثِّل صرحاً علمياً لها خصوصيتها وقدسيتها 
 وشرائطها ونتاجها ومنجزاتها.
وقد اهتم العَالَم المتحضر والمتقدم بهذا الصرح العلمي وشرعوا له قوانين خاصة، وكان من جملتها أن جعلوا للجامعة حصانة وآداباً تليق بها، بل جعلوها حَرَمَاً جامعياً أسوة بحرم المساجد والعتبات المقدّسة بما لا يجوز هتك حرمتها وتجاوز حدودها وضوابطها، ولكن للأسف الشديد نجد بعض جامعاتنا قد خرقت هذه الحُرْمَة وتجاوزت الحدود لضعف الإجراءات القانونية وسوء الإدارة وانفلات الطلبة وشيوع الأمية الثقافية بين الكادر التدريسي والطلبة، فضلاً عن انحراف بعضهم الفكري والخُلقي بما قلب هذا الصرح التربوي والعلمي إلى نوادي تهتم بالمظاهر والعلاقات وعرض الأزياء وإبراز المفاتن والتجمل المفرط واللباس الفاضح والسفرات الترفيهية والحفلات المنفلتة التي لا تُفَرِّق بينها وبين النوادي الليلية لتكون بعض هذه الجامعات عبارة عن بؤر للفساد والإفساد وإشاعة الأفكار الضالّة والمنحرفة وتجهيل الناس.
وعليه لابد من إعادة بناء هيكلية ونُظُم الجامعات بما يتناسب مع حرمتها وأهدافها التربوية والعلمية وجعلها بأيادي إدارية أمينة، وأساتذة يحترمون العلم ويؤدون وظيفة رسالية، وطلبة يلتزمون بالانضباط الخُلُقي والعلمي؛ لأنَّ الحرم الجامعي يمنع من دخول المخنَّثين والإماء والجواري والقانيات الذين يبحثون عن رضا أسيادهم واشباع غرائزهم وقضاء أوقاتهم باللهو واللعب، وإذا لم تكن للجامعات قوانين صارمة وإدارة أمينة وقوية ومتابعة حثيثة فستنهار منظومتها التربوية والعلمية وتنحدر إلى أسفل سافلين من الجهل والتخلف والفساد والرذيلة.

الوصيّة الثانية عشرة:
ينبغي على الإنسان العاقل الموزون أنَّ يُحَصِّن جوارحه وجوانحه من الانحراف والخطايا والمعاصي والسيئات، والجوارح كما هو معلوم سبعة وهي: العين، والأذن، واللسان، والفم، والفرج، واليد، والرِّجل، وهذه الأعضاء الجارحة إنَّما تجرح الخير والشر أي تعمل على كسبه.
ومن هنا فإنَّ الشريعة فصَّلَت في بيان طرق تحصين وتهذيب هذه الجوارح، كما بَيَّنَت التكليف الذي ينبغي مراعاته في كل جارحة، كما في العين التي يجب فيها غض البصر عن الحرام، وكذا السمع الذي يحرم فيه الاستماع إلى الغناء والغيبة وما إلى ذلك من الأفكار الشيطانية، وهكذا لكل جارحة أعمال تخضع لأحكام المكلفين، بل الصلاة والأكل والشرب والجماع من أفعال الجوارح. 
وأمَّا الجوانح فهي مما تجنح على القلب والوجدان، وتكون مواردها باطنية تخص النوايا والميول الحقيقية، ولا يطلع عليها إلا الله عزّ وجل، والتي يجب أنْ تكون طاهرة ونقية وخالصة لله تعالى، فينعقد في القلب الاعتقاد والإيمان والتسليم، فترجع قبول أعمال الجوارح إلى النوايا القلبية الصادقة؛ لأنَّ الأعمال بالنيّات، وكما يجب تصحيح أعمالنا الظاهرية التابعة للجوارح وفق الشرائط والأجزاء والهيئة المطلوبة، كذلك لابد أنْ تكون الجانحة تميل باتجاه الاعتقاد السليم والإذعان والانقياد والتسليم بأصول تنعقد في القلب كالتوحيد والعدل والنبوة والإمامة والمعاد يوم القيامة، وبما أنَّ الجانحة قوة نفسانية، بمعنى ميول باطنية تنعقد في القلب، فهي مما تناسب النوايا والخواطر والقضايا العقدية؛ ولذا صار القلب إمام الجوارح ومرجع لها، باعتبار أنَّ العقيدة أعظم من الشريعة ومرجع لها، كما روي عن أمير المؤمنين (عليه السلام) من كلامه (36): " ليس على العاقل اعتراض المقادير، إنَّما عليه وضع الشيء في حقه، العقول أئمة الأفكار، والأفكار أئمة القلوب، والقلوب أئمة الحواس، والحواس أئمة الأعضاء".
وفي خبر العلل عن الإمام الصادق (عليه السلام) قوله (37): " إنَّ منزلة القلب من الجسد بمنزلة الإمام من الناس الواجب الطاعة عليهم، ألا ترى أنَّ جميع جوارح الجسد شرط للقلب وتراجمة له مؤدية عنه الأذنان والعينان والأنف والفم واليدان والرجلان والفرج، فإنَّ القلب إذا هم بالنظر فتح الرجل عينيه، وإذا همَّ بالاستماع حَرَّك أُذنيه وفتح مسامعه فسمع، وإذا هَمَّ القلب بالشم استنشق بأنفه فأدّى تلك الرائحة إلى القلب، وإذا هَمَّ بالنطق تكلَّم باللسان، وإذا هَمَّ بالبطش عملت اليدان، وإذا هَمَّ بالحركة سعت الرجلان، وإذا هَمَّ بالشهوة تحرك الذكر، فهذه كلها مؤدية عن القلب بالتحريك، وكذلك ينبغي للإمام أن يطاع للأمر منه".
إذن لابد من الاهتمام بكل ما يتعلق بالجوارح والجوانح ورعاية ما يُناسبه، لاسيما ونحن في عصر الشبهات والفتن والأباطيل والتشكيكات والانحرافات وتعدد وسائل التواصل وتنوعها وسهولة الوصول إليها مع كثرة الناطقين فيها وتقمصهم لمختلف الوظائف والمناصب بأساليب وطرق شيطانية، بل وتلبسهم بلباس الدِّين كذباً وزورا من أجل تضليل الناس والتأثير على أكبر عدد منهم؛ ولذا لابد من فرز الناطقين وتشخيص أحوالهم وأفكارهم وسلوكياتهم حتى يتم الأخذ من العنصر العالم والعادل الأمين الناصح وتجنب العنصر الفاسد الخبيث المُضَلِّل، فقد روي عن أبي جعفر (عليه السلام) قوله (38): " من أصغى إلى ناطق فقد عبده، فإنْ كان الناطق يؤدّي عن الله عزوجل فقد عبد الله، وإنْ كان الناطق يؤدّي عن الشيطان فقد عبد الشيطان "؛ ولذا لابد من تجنب أهل الريب والبدع والفتن وإثارة الشبهات والتشكيكات والطعون؛ لأنَّ الجلوس معهم والاستماع إليهم يجعلكم كأحدهم ، بل أظهروا البراءة منهم، وقد ورد عن أبي عبد الله (عليه السلام) أنَّه قال (39): " إذا رأيتم العالم محبا لدنياه فاتهموه على دينكم، فإنَّ كُلَّ محبٍ لشيء يحوط ما أحب "، فيكون هذا المحب للدنيا حريصاً عليها مهتماً بها وساعياً بشغف ولهفة نحوها فيندفع لنيل المناصب وكسب الأموال، فيخلط الحلال بالحرام ، ويزرع الشبهات والتشكيكات من دون أن يجيب عليها، ولا يعترف إلا بنفسه ومصالحه وخواصه، فاحذروه على دينكم. 

الوصيّة الثالثة عشرة:
 من الأزمات والمآسي التي تخلقها مجتمعاتنا العربية والإسلامية هي " صناعة الطغاة " و" الآلهة البشرية "، فيضعوا أنفسهم رغبة أو رهبة تحت المطرقة وفي ظل الاستعباد والعبودية لغير الله تعالى إلى حدِّ التطرف من حيث يشعرون أو لا يشعرون، وهذا من التثقيف الجاهلي المتوارث والمستعمل في أغلب المؤسسات والتنظيمات الحكومية والسياسية والاجتماعية والدينية التي يتجاوز عملها البُعد الإداري والخدمي المستقل؛ لسعيها الحثيث والجاد لاكتساب الطابع الحزبي الضَيِّق والرمزية الفوقانية التي لا تقبل الحوار والنقاش وقبول الآخر.
ومن هنا يبرز عنصر الأنا وينشأ الاستبداد ويتفاقم إلى مرحلة الطغيان ليتولد بسببه تعدد الاصطفاف من البِطانة والحواشي والكوادر الحزبية وينشط بينهم الخلاف والنزاع والصراع بما يجعل كل مؤسسة أو مدرسة أو تنظيم يعمل بكل طاقاته المادّية والمعنوية على تجنيد أكبر عدد من الناس لموالاته وتكبيله بقيود ما أنزل الله بها من سلطان ليصل حالهم إلى الاستعباد والاستضعاف، وهذا مما لا يتوافق مع المعايير العقلية والشرعية.
وبالتالي ترتكز في نفوس كلّ جهة صفة الأنانية والروح الحزبية والتعالي والفوقية على الآخرين بذريعة أنَّه الأولى والأحق والمُقَدَّم استنادً إلى مفاهيم ليست محكمة وغير محرزة إلى درجة التصريح بمقولة " إذا لم تكن معي فأنت ضدّي "، بل يتعدى الأمر إلى التفسيق والتكفير والتنكيل والاتهامات الجارحة التي تتبادلها تلك الجهات فيما بينهم، وهم بهذه الأدوار يُمارسون دور الخصم والحكم، فبَدَل من أنْ ينشروا ثقافة المقبولية والاعتراف بالآخر والتعاون بينهم ويُبَشِّروا بمجتمع (عادل - فاضل)، نجدهم على أرض الواقع يُعلنوا رفض الآخر ويُسَيِّسوا الأمور ويؤسسوا لمجتمع فاسق؛ لأنَّ بعضهم يحكم على بعض بالفسق على أقل التقادير، في حين أنَّهم خصوم وبينهم عداء وصراع على المناصب والنفوذ والمكاسب والمال؛ ولذا لا تُقْبَل شهادة أحدهم الجارحة في الآخر، فضلاً عن صيرورته قاضياً ليُصدر حُكماً بشأن خصمه، فيكون مصداقاً لقول المتنبي: فيكَ الخِصامُ وأَنْتَ الخَصْمُ والحَكَمُ. 
إذن هذه المؤسسات العلمية أو الخدمية أو الإدارية أو الاجتماعية سواء كانت حكومية أم مستقلة عنها لا تملك الولاية والوصاية والقيمومة على الناس، كما لا ينبغي لها أنْ تكون وراثية أو حزبية أو تخضع للمحاصصة أو تُمارس دور الطغيان والاستبداد والظلم لابتزاز الآخرين وانتزاع الاعتراف بهم أو عدم معارضتهم وفقاً لسياسة الترغيب والترهيب، والوعد والوعيد رغم اتصافهم واقعاً بالجهل أو الفساد أو الفشل أو الظلم أو ضعف الإدارة وسوء التدبير، فيكون تسلط هؤلاء على الناس مما يوقعهم في مخاطر ومهالك دنيوية وأخروية، ولات حين مندم.
ولذا نوصي الجميع عدم تكرار المآسي والتجارب المريرة التي أوقعت المجتمع في تحزبات مقيتة وردود أفعال خطيرة جداً على كافة المستويات نتيجة الصراع على السلطة والنفوذ والمكاسب والمال باسم الدّين والمذهب والقومية والعشيرة والحزب والمؤسسة وما إلى ذلك من مسميّات كثيرة تَمَزَّق بتصرفاتهم النسيج الاجتماعي والطابع الديني والبُعْد الأخلاقي حتى انشغل الكثير من الناس عن العلم والمعرفة والكمال الإنساني ليُمارسوا تبرعاً أو مقابل ثمن دور البِطانة والحاشية والجاسوسية والنفاق والسلطة الأمنية على صنفهم وأبناء جلدتهم ومؤسستهم ليقمعوا حريتهم في أفكارهم وتوجههم واختيارهم رغم موافقة عملهم للعقل والدِّين والثابت من سيرة المتشرعة.

الوصية الرابعة عشرة:
 يجب احترام المرجعيات الدينية والعلماء والفضلاء والطلبة وسائر المؤمنين، فإنَّ ذلك من الدِّين والخُلُق القويم إلا مَنْ ثبتت جرأته بدليل قطعي على القضايا العلمية واستخفافه بها أو تجاوزه الحدود الشرعية واللياقة الأخلاقية أو خروجه عن المذهب أو الدِّين. 
وينبغي عليك أيُّها الشاب المؤمن الانتباه إلى أنَّ الاختلاف في التقليد لا يعني تعدد الانتماء؛ لأنَّ المرجعية فوق مستوى التحزبات، ثُمَّ إنَّك في مرحلة بناء الذات لابد لك من تحصين نفسك بالعلم والمعرفة والأخلاق الكريمة حتى تسمو نحو الكمال، وهذا يقتضي أنْ تكون من المشتغلين والمحصلّين وأنْ لا تنخرط في عالم الشبهات والمتشابهات وتكون من أدوات خلْق الأزمات والفتن والصراعات، لاسيما وأنت لست من أهل التخصص في تقييم العلماء على سبيل المثال، فضلاً عن كون الجاهل لا يُقَيِّم العالم، بل حتى أهل التخصص وهم أهل الخبرة فإنَّ كثيراً منهم يفتقروا إلى الخبرة في تقييم العلماء ليس لعدم وجود الملكة فيهم وإنّما بسبب انتفاء المعاشرة معهم وعدم الاطلاع على أحوالهم وعلى دروسهم وبحوثهم ومؤلفاتهم وشهاداتهم وما إلى ذلك، فكيف لهم أنْ يحكموا لفلان دون فلان، أضف إلى فقدان بعضهم للعدالة في التقييم بدافع الحسد أو الحقد أو المصلحة، وربما يكون بعضهم منافساً للآخر فتكون شهادته وتقييمه السلبي لا حجية لها لكونها مجروحة؛ ولذا ينبغي للعالم العادل أنْ لا يتصدّى للتقييم وإصدار أحكام ما لم يكن مطلعاً بشكل مستوفٍ على أحوال المُقَيَّم مع تقديم أدلة علمية وقطعية على تقييمه لاسيما لو كان تقييمه سلبياً.
واعلَم أنَّ القدح والمدح، والتقييم سلباً أو ايجاباً له معايير شرعية وعقلية لا يجوز تخطيها فتقع في المحذور، فكما إذا نفخت في البالون من دون رعاية حجمه فإنَّه سيؤدّي إلى تمدده أكثر من سعته، وبالتالي انفجاره وفقدان صلاحيته، كذلك العمل على نفخ إنسان وتضخيمه أكبر من حجمه فإنَّ مآله خطير ومما يُشَجِّع على الطغيان والاستبداد والظلم، والذي لا ينحصر ظلمه على نفسه، بل يتسع ويتعدى إلى المجتمع، ولاسيما إذا ارتقى مناصب عليا عامّة وهو فاقد لأهليتها.
ولذا لابد من أخذ الحيطة والحذر في مسألة التقييم مع ضرورة الالتزام بالضوابط والمعايير الشرعية والابتعاد عن متابعة الهوى والمزاج والعناوين الضيِّقة والمصالح الخاصة والصراعات الشخصية، وهكذا ينبغي تجنب الهمز واللّمز والغيبة والبهتان واستعمال سياسة التسقيط والتسفيه والتفسيق والاستعلاء على الآخرين وعدم الاعتراف بهم، كما ليس لأحد مهما بلغ علمه أن يجعل نفسه وصياً وحاكماً على الآخرين يتصرف فيهم بما يشاء متجاوزاً الضوابط العلمية والشرائط والصفات المطلوبة شرعاً والتي منها العدالة، ومستنداً إلى معايير شخصية لا يصح البناء عليها ولا يجوز اعتمادها مع مخالفتها للحكمة المروية عن الإمام السجاد (عليه السلام) (40): [واعلم أنك إنْ تكن ذنبا في الخير خير لك من أن تكون رأسا في الشر].
أعاذنا الله وإياكم من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، ورحم الله مراجعنا وعلمائنا الماضين وحفظ الباقين وسدّد خطاهم لما يُحِبُّه ويرضاه، وعجل الله فرج ولينا وإمامنا صاحب العصر والزمان صلوات الله عليه وجعلنا من أنصاره وأعوانه والذابِّين عنه والراضين بفعله والمُسَلِّمين لأمره والمستشهدين بين يديه في جملة أوليائه بحق محمد وآله الطيبين الطاهرين.

أبو الحسن حميد المقدس الغريفي
النجف الأشرف
29 / شعبان المعظم / 1445 هــ

الهوامش : 
1 - الكهف / 10 – 13.
2 - يوسف / 30.
3 - يوسف / 22.
4 - تفسير روح البيان لإسماعيل حقي الإسطنبولي ج7 ص3. 
5 - تحف العقول لابن شعبة الحراني ص70.
6- قرب الإسناد للحميري ص 128/ تسلسل الحديث 450.
7- الأمالي للشيخ الطوسي ص268 / المجلس الحادي عشر: رقم 599.
8- المحاسن للبرقي ج1 ص228: تسلسل 161.
9- بحار الأنوار للمجلسي ج74 ص 75.
10 - أصول الكافي للكليني ج2 ص 135.
11 - التحريم / 6. 
12- بحار الأنوار للمجلسي ج72 ص 38.
13 - العلق / 1 - 5.
14 - القلم / 1.
15- آل عمران / 164.
16 - طه / 114. 
17 - أصول الكافي للكليني ج2 ص 170/ باب حق المؤمن على أخيه وأداء حقه/ حديث5.
18- تفسير العسكري ص 635/ سورة مريم.
19- الصواعق المحرقة لابن حجر الهيتمي ص 313 / الفصل الثالث: في الأحاديث الواردة في بعض أهل البيت (عليهم السلام) . تفسير روح البيان لإسماعيل حقي ج6 ص110.
20- المؤمنون/115.
21 - الذاريات / 56.
22 - الزخرف/ 67.
23 - الفرقان/ 27 - 29.
24- أصول الكافي للكليني ج2 ص467، مصادقة الإخوان: 30. وراجع مؤلفنا: سلوك الطريق إلى معرفة الصديق.
25- نهج البلاغة / قصار الحكم / الرقم: 449/ ص462 شرح محمد عبده.
26 - وسائل الشيعة (آل البيت) للحر العاملي / ج12 ص 307 / 164 - باب تحريم النميمة والمحاكاة/ حديث4. تسلسل (16372).
27 - عيون الحكم والمواعظ لعلي بن محمد الليثي الواسطي ص 436.
28- تحف العقول لابن شعبة الحرّاني ص120. وما في عيون الحكم والمواعظ ص 479: " ما أبعد الخير ممن همته بطنه وفرجه ".
29- عيون الحكم والمواعظ ص124.
30 - هود / 113.
31 - وسائل الشيعة (آل البيت) ج17 ص 181 / باب تحريم معونة الظالمين / حديث 11.
32 - فروع الكافي للكليني ج5 ص106/ باب عمل السلطان وجوائزهم/حديث4.
33- وسائل الشيعة (آل البيت) للحر العاملي ج16 ص259 / باب تحريم مجاورة أهل المعاصي ومخالطتهم/ حديث 7: تسلسل (21508).
34 - بحار الأنوار للمجلسي ج98/ ص 196، باب 18 زيارات الإمام الحسين (عليه السلام) المطلقة /حديث 31. 
35 - عيون أخبار الرضا للشيخ الصدوق ج1 ص 58/ تسلسل 204.
36- كنز الفوائد أبو الفتح الكراجكي ص88/ (فصل من كلام أمير المؤمنين عليه السلام).
37- علل الشرائع للصدوق ج1 ص 109.
38 - فروع الكافي للكليني ج6 ص 434/ باب الغناء/ حديث24.
39- أصول الكافي للكليني ج1 ص 46 / باب المستأكل بعلمه والمباهي به/ حديث 4.
40- اختيار معرفة الرجال (رجال الكشي) للشيخ الطوسي: ج1 ص 147/ رقم 196 (القاسم بن عوف).

انتبهوا أيها الشباب

مواضيع قد تهمك

0 تعليق

تنبيه
  • قبل كتابتك لتعليق تذكر قول الله تعالى: ((ما يلفظ من قول الا لديه رقيب عتيد))
  • شكرا لك