3‏/4‏/2019

إدارة الموقع

العلمانيون ومقولة : الدين لله والوطن للجميع


العلمانيون
ومقولة " الدين لله والوطن للجميع"
بقلم / سماحة آية الله الفقيه السيد ابو الحسن حميد المقدس الغريفي "دام ظله"
النجف الاشرف
مقال منشور في مجلة انصار الحجة (عج) - العدد 26


العلمانية من النظم الوضعية الغربية التي دخلت إلى العالم الإسلامي مع المستعمرين و صاروا يُبشِّرون بها ويُثقفون الشعوب المستعمرة عليها ، وقد تمَّ الترويج لها عن طريق عملائهم من المستغربين والحُكّام العبيد للغرب وقد تلقاها بالقبول جملة من أنصاف المتعلمين ممن يحسبون أنفسهم على المثقفين بينما هم غارقون في الوهم وساقطون في شباك الضلالة وسائرون في طريق لا أفق له ،

قد انخدعوا به من دون وعي منهم لمخاطر هذا الفكر على مستقبل حياة الأمَّة وحقوق أبنائها لأنَّ من أولويات العلمانية تسفيه حركة الدِّين وفصله عن السياسة والقيادة وعدم رعايته لإرادة الشعوب في تقرير نظام حكمهم المُعَبِّر عن هويتهم ، فدفعتهم المصالح الضيِّقة والغرائز الشهوانية والتقليد الأعمى للغرب بلا التفات إلى الظروف التي مرّت بها الشعوب الغربية وجعلتها تؤسِّس هذا النظام الارتجالي الانفعالي الذي كان ردّة فعل غير موزونة اتجاه ما فعلته الكنيسة في العصور الوسطى وما تلتها بحق شعوبها من حروب دموية وإقامة محاكم التفتيش السيئة الصيت وقمع حريات الشعوب وإشاعة الأساطير والخرافات والفساد وتوزيع صكوك الغفران باسم الدِّين والرَّب حتى ثارت الشعوب عليها وقلبت المعادلة بحيث فرضت على الكنيسة التبعية لنظام الدولة وعدم تدخلها بالشأن السياسي ومفاصل العمل داخل الدولة ليتوقف عملها على إقامة الطقوس الدينية والعمل الكهنوتي ، فقام العلمانيون في البلاد الاسلامية بنفس الدور اتجاه ما يُسمَّى بالخلافة العثمانية التي رفعت شعار الدّين ومارست الفساد والتضليل والقهر وقد شاع بسببهم الفقر والمرض والجهل حتى أساءت إلى الدِّين والمتدينين إلى أن وصل بها الحال إلى وصفها بالرجل المريض ومن ثَمَّ انهيارها وسقوطها ، وبدأ حينئذٍ الدور العلماني مدعوماً من الغرب بمحاربة الدِّين ورموزه والمنع من ممارسة أي دور سياسي مستقل عن الدولة حتى فرضت قسراً طبيعة نظام الحكم وشرَّعت دستورا علمانيا فصلت بموجبه الدِّين عن الدولة ، وصار العلمانيون يرفعون شعارا ينص على أنَّ (الدِّين لله والوطن للجميع) وبتصور ساذج ظنّوا أنَّ ذلك يُحقق العدالة بين مكونات الشعب ويضمن مساواة الحقوق بين الجميع مع وصف الدِّين والمتدينين بالرجعية التي تعيق حركة الحياة نحو التقدم إلى درجة أن غرق العلمانيون بمحاربة الدِّين بطرق وأساليب شتى وبصورة مباشرة وغير مباشرة ومارسوا مختلف وسائل الضغط والتضليل لحرف الناس عمّا يؤمنون به من مبادئ وقيم وأخلاق وتشريعات .
ثم واصل العلمانيون نشر أفكارهم اللادينية بعناوين متعددة ومظاهر مختلفة لغزو العالم وخصوصاً البلاد الإسلامية واستمالة شعوبها نحو التجرد عن الإيمان بحاكمية الإسلام  بل وتضليلهم بأنَّ الديانة الإسلامية لا تختلف عن الديانة المسيحية واليهودية في عدم أهليتها لقيادة الأمة وفق نظام ديني بدليل ظلم وفساد وفشل دولة الخلفاء والسلاطين كالدولة العثمانية ، وبخبث ومكر التيارات المعادية للإسلام فإنَّهم يحسبون هذه الدولة وأمثالها على النظام الإسلامي وهو بريء منهم ، كما صاروا يشوهون صورة الرموز الإسلامية الأصيلة ويحسبوها على تلك الدول الفاسدة والضالة من أجل الطعن بحاكمية الإسلام ورموزه الرساليين ، فقام أذناب الغرب ومُرَوِّجي الفساد عبر حكومات متعاقبة من تأسيس قانون مكافحة الرجعية ، فعملوا جاهدين على خلق الحواجز وعرقلة الطريق أمام الدعاة الإسلاميين ، ثم قاموا بممارسات بشعة من وضعهم في سجون إرهابية ومن ثم التصفية الجسدية بألوان مختلفة وإبادة جماعية ، كل ذلك خوفا من واقعية الاسلام وأهليته لقيادة الأمة بنظام إسلامي ذي طابع متحضر معاصر يواكب التطورات العلمية العالمية ويتعايش مع الشعوب بصدق وأمانة وسلام ويرفض العمالة والتبعية للغرب وأذناب الشيطان .
إذن من أولويات العلمانية أنَّها تقوم بعملية سلب إرادة الشعوب ومصادرة حقوقها وممارسة التطرف في مواجهة الخط الإسلامي لتفرض بالقوة والغَلَبَة والتضليل والتجهيل دستورا وضعياً يسقط من حساباته العنصر الإلهي والتشريع الرباني وبذلك تنتهك القيم الأصيلة والحقوق الإنسانية وتمنعه قسراً من اختيار منهج حياته وطبيعة حاكميته التي يؤمن بها بل ويتدخل في مبادئه وقيمه وأخلاقه ، وبالتالي يفقد الشعب حريته وتُصَادَر حقوقه في اختيار الحاكمية وإقامة الشعائر الإسلامية في كثير من مفاصل الحياة ، وعليه فالقانون العلماني اللاديني يتصور أنَّه بإلغاء خصوصيات الشعوب الدينية يستطيع أن يستوعبها ويدخل في عالمية مزعومة ، وهذا وَهْمٌ لأن إرادة الشعوب أقوى من الطغاة ولأنَّ الإيمان أقوى رابطة من المصالح ، وحينئذٍ فإنَّ قهر الشعوب المتدينة بنظام غير متدين يفرض عليها التزامات وقوانين مخالفة لتدينهم مما يجعلهم تحت الضغط والغليان الذي يُوَلِّد عندهم الانتفاضة والثورة ضد ذلك الحكم العلماني لأن الدِّين أغلى من المال والنفس .
وكما أصبح واضحاً أنَّ العلمانية منهج يُصادر في أدبياته وتطبيقاته حقوق الأغلبية المؤمنة بحاكمية الإسلام في البلاد الاسلامية وهذا فعل يُنافي مبادئ حقوق الإنسان ويُعارض منهج الديمقراطية الغربية وبالتالي فإنَّ هذه الممارسات تكشف عن استبداد النظم العلمانية وتطرفها وازدواجيتها في المعايير والمواقف لتثبت بكل صراحة أنَّها معادية للإسلام وتسعى جاهدة لتذويب هوية المسلمين وسلخهم عن نظمهم الشرعية والاجتماعية والتسلط عليهم ، وقاموا لذلك بترويج شعارات براقة يُضَلِّلون بها الشعوب من أجل تمرير مصالح الاستكبار العالمي في البلدان المسلمة واتخذوا مواقف صارمة وحذَّروا الناس من حاكمية الإسلام وألصقوا دولة الأمراء والسلاطين بالإسلام لتشويه صورة حاكميته وأخافوا الناس من عودتهم للحكم في حين أنَّ تمثيلهم للإسلام زورا وبهتاناً كما هو تمثيل الفئات التكفيرية المزَيّف للإسلام في عصرنا الراهن ، والفئات المتأسلمة الذائبة في بودقة الإستكبار مع ممارستها الظلم والفساد ، وصار العلمانيون في إطار حملتهم على تشويه معالم الإسلام الأصيل وتضليل المسلمين يرددوا شعارهم : [الدّين لله والوطن للجميع] ، فإلى ماذا يهدف العلمانيون من ترديد هذا الشعار ؟!!.

[ الدين لله والوطن للجميع ]


يهدف العلمانيون من هذا الشعار إلى جعل الدِّين مجرد علاقة بين العبد وربِّه ولا تتجاوز أكثر من إقامة الشعائر العبادية في أماكن العبادة وتهذيب النفوس وتقويم الأخلاق وتحريك الهمم نحو ما تطلبه الدولة من المواطن تحت عنوان المواطنة الصالحة التي تعني تجسيد مبادئ وقيم وأخلاق الدولة ، إلا أنَّ هذا التقنين والتصرف السياسي إنما هو تعبير عن كون السياسة لديهم هي " فن الممكن " بحيث لا يتورع السياسي الذي يؤمن بهذا المبدأ عن ممارسة الكذب والخداع والرذيلة من أجل كسب المصالح وإقامة دولته المزعومة ، ولذا لا يتوافق سلوك هذا السياسي مع سلوك المتدين للبَوْن الشاسع بين الفكرين العلماني والديني ، ولذا نجد أنَّ العلماني يزعم  أنَّ حاكمية الدين لا تستوعب جميع طوائف ومكونات الشعب المختلفة وبالتالي لابد من فصل الدِّين عن السياسة وإقصائه عن صنع القرار السياسي والتدخل في شؤون الحكم ، وهذا ما يدعوا للقول بأنَّ الوطن للجميع لأنَّه المكان الجامع لكل أفراده المنتسبين إليه بمختلف طوائفهم وقومياتهم سواء كانوا أكثرية أم أقلية من المُجَنَّسين أم الأصليين من دون تمايز وتفاضل وبما يسمح للأقلية الدينية أن تحكم الأكثرية المسلمة ، وهذا ما يصبوا إليه الاستكبار العالمي الذي يتعامل مع الشعوب وفق قوانين ومعايير مطاطة يسلبون من خلالها السلطة تحت عنوان الشراكة الوطنية والمحاصصة والديمقراطية أو الغَلَبَة بالانقلاب وبالتالي تُفْرَض على المسلمين مبادئ وقيم وأخلاقيات وتشريعات وعلاقات غريبة وضارة تحت راية العلمانية ، ولذا فالمواطن عندهم بحسب مزاعمهم الظاهرية أنَّه لا يكتسب هويته من دينه وإنما من مواطنته حتى تمارس الأقليات الدينية والمذهبية في واقع الحال دوراً قياديا وحاكماً في بلاد المسلمين لصالح المستكبرين وطوائفهم ، وفي الوقت نفسه الذي يفصلون فيه الدين عن السياسة نجدهم قد صنّفوا الشعوب على أساس انتمائها الديني والقومي ودوَّنوا ذلك في المستمسكات الرسمية التي تكشف فيها عن هوية الإنسان بل أسسوا دساتيراً تُقَسِّم الشعوب على أساس طائفي وتتعامل معهم بروح الطائفية والمحاصصة لا بروح المواطنة ، وهذا من جملة الموارد التي تكشف عن خبث نواياهم وتآمرهم على المسلمين .
إذن مقولة : [الدّين لله والوطن للجميع] باطلة وعقيمة في حقيقتها لأنَّ الفصل بين الدين والوطن في النسبة لا واقع له كما لا مُسَوِّغ له لأنَّ الوطن كمصطلح سياسي قطعة مجتزأة من الأرض الواسعة التي خلقها الله تعالى للناس أجمعين وهي لا تخرج عن دائرة مرجعيته وتشريعاته إلا أنَّ الطغاة والمستكبرين عملوا على تجزئتها واستضعاف شعوبها واستعمارها لأطماعهم الدنيئة وفرض قوانين وضعية تخدم مصالحهم الخاصة مما أوجد الفساد والنزاع والصراع على الأرض ، ولذا تتنافى هذه المقولة مع المنطق الإسلامي كما تتعارض عملياً مع مصلحة الشعوب وتُصادر حقوقهم وتسلب إرادتهم وتُضيِّق على وجودهم وحركتهم ولكنَّ العلمانيين يتشبثون بأدنى شعار تضليلي يُمكن أن يوقع الناس في فخاخهم ومؤامراتهم ، ولذا يبقى الإنسان العلماني سواء كان مُلحداً أم لا ، وكذا النفعي المرتزق والمأجور حاملاً هذا الشعار مُردّداً له بين حين وآخر حتى يصل الدور إلى المُغَفّل أو المُضلَّل ليكون بوقاً نشازاً لا يفقه معنى هذا الشعار ولا يعرف مدلوله ولا ينتبه إلى غاياته ليكون ألعوبة بيد المتآمرين على الأوطان ، ولا يلتفت هؤلاء إلى أنَّ الدِّين يعني الطاعة الخالصة لله تعالى في حاكميته وتطبيق تشريعاته ، كما أنَّ الأرض ملك لله تعالى وقد استخلف عليها الإنسان ليعمرها ويسكنها وفق قوانين وتشريعات مالكها على أن تعود منافعها إلى الإنسان الذي سَخَّر الله تعالى له كل شيء لطفاً منه ورحمة بعباده ونعمة عليهم ، ومن باب لزوم شكر المنعم يستحق الخالق بنحو الوجوب الشكر والحمد والثناء على ما أنعم على البشرية من نِعَم قَلَّ احصائها ، وأدنى مراتب شكره هو معرفته والإيمان به وتوحيده والرضوخ لحاكميته والإخلاص له في امتثال أوامره واجتناب نواهيه ، وقد  قال تعالى (1) : [ وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ] ، وقوله تعالى (2): [وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ فَأَنَّى يُؤْفَكُونَ]  ، وقوله تعالى (3) : [هُوَ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا فَاسْتَغْفِرُوهُ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ إِنَّ رَبِّي قَرِيبٌ مُجِيبٌ] ، وقوله تعالى (4) : [قُلْ إِنَّ الْأَمْرَ كُلَّهُ لِلَّهِ] .
وانطلاقاً من الأدلة العقلية والنقلية ، ووضوح دلالة هذه الآيات وغيرها على أنَّ الله تبارك وتعالى هو خالق كل شيء ومالكه ولم يتركه من دون نظام دقيق في عالمي التكوين والتشريع وبلا فاصل بينهما ، وسخَّر كل ذلك لمصلحة الإنسان وهذا شيء ثابت بالوجدان ، وما على الإنسان المخلوق إلا أن يؤمن بخالقه و يطيع أوامره ، ويستعمر أرضه ويستفيد من عمارتها ويسكنها بما يوافق القانون التشريعي للمالك الحقيقي .

[ الوطن للجميع ]


من الواضح أنَّ الوطن إنَّما يعني المكان الذي ولِدَ فيه الإنسان ونشأ فيه وارتبط به ارتباطاً جسدياً وروحياً وعاطفياً بحيث صار يُنسَبُ إليه في انتماءه وولائه ويُعَرَّف بجنسيته الوطنية في حدودها الجغرافية وعمقها التأريخي وفق قيود وتجزءات مستحدثة فرضتها مصالح الاستكبار العالمي وجعلتها في قوانين دولية بما تجاوز معناه اللغوي المنحصر بمكان النشأة والارتباط.
وقد ذكر القرآن الكريم الأوطان وعبَّر عنها بالدِّيار في آيات كثيرة ، وهي الأرض التي أحياها الإنسان واستقر فيها لتكون مختصة به ، كما في قوله تعالى : [وَتُخْرِجُونَ فَرِيقًا مِنْكُمْ مِنْ دِيَارِهِمْ تَظَاهَرُونَ عَلَيْهِمْ بِالْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ] البقرة/ 85 . وقوله تعالى :[ فَالَّذِينَ هَاجَرُوا وَأُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَأُوذُوا فِي سَبِيلِي] آل عمران /195 . وقوله تعالى: [وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ بَطَرًا وَرِئَاءَ النَّاسِ وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَاللَّهُ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ] الأنفال/47 . وقوله تعالى :[الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ إِلَّا أَنْ يَقُولُوا رَبُّنَا اللَّهُ] الحج/40.  وقوله تعالى : [لِلْفُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا وَيَنْصُرُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ] الحشر/8.وقوله تعالى :[قَالُوا وَمَا لَنَا أَلَّا نُقَاتِلَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَقَدْ أُخْرِجْنَا مِنْ دِيَارِنَا]البقرة/ 246.
وقد عبَّر القرآن الكريم أيضاً عن الوطن بالبلد ، حيث وسَّع من دائرته بما يشمل كل مَن اتخذ بلداً آخراً سُكنى له ، وبَيَّن طبيعة ارتباط الإنسان بهذا البلد وحرصه عليه ، وكيف أنَّه ينشغل بالدعاء له بالأمن والحياة والازدهار كما في دعاء النبي ابراهيمعليه السلام  في قوله تعالى :[وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ آَمِنًا وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الْأَصْنَامَ] ابراهيم/35. وقوله تعالى : [كُلُوا مِنْ رِزْقِ رَبِّكُمْ وَاشْكُرُوا لَهُ بَلْدَةٌ طَيِّبَةٌ وَرَبٌّ غَفُورٌ]سبأ/15.
وبالرغم من كون الغالبية العظمى من الدول اليوم أصبحت ترفع شعار العلمانية وراية الوطن والمواطنة إلا أنَّنا نجد أكثر الناس يعيشون فيها الاستضعاف فيلجئون إلى الهجرة أو يرضخون للواقع السيئ فيعيشون الغربة في أوطانهم ومصادرة حقوقهم أو يقبعون في السجون أو تتم تصفيتهم الجسدية أو.... فأين الوطن للجميع ؟!!! ، وأين حقوق المواطنة ؟!!! ، وبما أنَّ الأرض جميعاً لله تعالى فقد أمر المستضعفين بالهجرة للتخلص من استضعاف الطغاة والمحاربين لهم كما في قوله تعالى(5) : [قَالُوا فِيمَ كُنْتُمْ قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الْأَرْضِ قَالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا فَأُولَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَاءَتْ مَصِيرًا] ، فأرض الله واسعة بلا حدود جغرافية ولا حواجز قانونية من فرض الجوازات والفيزا والجنسية ، ولكنَّ الأنظمة الوضعية الاستبدادية العلمانية سعت إلى رعاية مصالحها الضيّقة ورؤاها القاصرة وأفقها المحدود واستيلائها على حقوق الآخرين مع رفضها أن تكون الشعوب حُرَّة في تنقلها في أرض الله الواسعة بالرغم من كونها لا تُزاحم الآخرين أو تعتدي على مختصاتهم ، لذا قامت بتجزئة الأرض وتحديدها جغرافياً وقد ضيَّقت مساحة تواجد الشعوب وعزلت بعضهم عن بعض وخنقتهم بقوانين مرتجلة قاصرة وناقصة وظالمة وقيادات جاهلة تتصف بالطغيان والفساد والفشل مع قيامهم بتبديل القوانين بين الحين والآخر في فترة زمنية محدودة جداً مما جعل الشعوب تثور على حكوماتهم بين آونة وأخرى كدليل على فساد وفشل تلك الأنظمة والحكومات التي تتوالى لديها النظريات المختلفة في الحكم والدساتير المتباينة في الهوية والتشريعات المتناقضة والمواقف المتضادة ، فأين سيصبح "الوطن للجميع" إذا كان المواطن في ظل علمانيتهم منفياً عنه قسرا إما في السجون أو خارج الحدود أو يعيش فيه الغربة ومصادرة الحقوق ؟!. 
بينما  نجد الإسلام يُمثل الدين والدولة كنظام متكامل وله رموز قيادية عالمة وعادلة ليستوعب بذلك جميع أبناء الوطن بل وشعوب العالم أجمع في أرجاء المعمورة ، ويحكم بينهم بالعدل والإنصاف ويحترم كل القوميات واختلاف الألسن والألوان ويقضي لأبناء الشرائع الأخرى وفق قاعدة الإلزام أي ألزموهم بما ألزموا به أنفسهم وبما أقروا على أنفسهم مما يكون حجة عليهم في الحكم وتشريعات الأحوال الشخصية ولا يُصادر حقوقهم وفق الضوابط المشروعة في إقامة طقوسهم في معابدهم وكنائسهم ونيل حقهم في العمل ضمن قانون العمل الوظيفي في الدولة والعيش بحياة كريمة مع حفظهم للنظام شأنهم شأن أي مواطن مسلم يحترم القانون ويحفظ النظام العام ، وبذلك لا نخرج عن كون الدّين لله والوطن لله وكل مخلوق لله تبارك وتعالى ونحن نأكل ونستثمر في أموال الله تعالى .

ما المقصود من كلمة [الدِّينُ لِلَّهِ] ؟.


جملة [الدِّين لله] (6) نص قرآني اقتطعه العلمانيون من آية قرآنية تُعَبِّر عن حقيقة فهي كلمة حق في القرآن ولكن أراد العلمانيون منها الباطل باقتطاعها وفصلها عن سياقها من نفس الآية التي لها صدر وتتمة وبالتالي تفقد دلالتها كمن يقتطع كلمة " لا إله إلا الله " ، ويكتفي بالقول : لا إله ، ويسكت ، ليتم بعد ذلك تحريف كلمة [الدِّين لله]  وتفسيرها بما يتلائم وتطلعات النظرية العلمانية المعادية للدِّين لتضليل الناس بنشرها وتوجيهها بتوصيف الدِّين بأنَّه علاقة خاصة بين العبد وربِّه وهو عبارة عن شعائر أو طقوس كهنوتية وليس له دخل في تنظيم شؤون البلاد والعباد ، بل وصفوا العاملين بالدِّين في حياتهم العملية بالرجعية على حدِّ زعمهم بذريعة واهية وكاذبة وهي عدم مواكبتهم النُظم الحديثة التي تؤمن بالتحضر والانفتاح والمعاصرة !!! ، وأُريد للدِّين أن يجعلوه من التراث القديم الذي يُستحضر ذكره في الدراسات التأريخية والمتاحف الفلكلورية !!! .   وأمَّا تفسير النص مجتزأً ومقطعاً بعيدا عمَّا يُتمم معناه من الكلام فهو من التلاعب والتحريف ولذا لابد من عرض النص كاملاً لبيان دلالته القرآنية الواضحة لأنَّ أعداء الدِّين أخذوا على عاتقهم إثارة الشبهات ومحاربة الدّين وتشويه صورته فصاروا يتلاعبون بنصوص القرآن الكريم كما تلاعبوا في قوله تعالى(7) : [فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ] فوقفوا وسكتوا ولم يُكملوا الآية الكريمة في قوله تعالى(8) : [ فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ * الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلَاتِهِمْ سَاهُونَ * الَّذِينَ هُمْ يُرَاءُونَ * وَيَمْنَعُونَ الْمَاعُونَ] ، كما فعلها سيِّدهم يزيد بن معاوية حينما أنشد قائلا : دع المســـــــاجد للعبّاد تســــكنها

                  وَقِفْ على دكّة الخمّار واسقينا

ما قال ربّك : ويلٌ للذي شربوا

                  بــل قـال : ويـــــــلٌ للمُصــــَلّينا

وهذا هو منطق الملحدين والعلمانيين اليوم ومن غُرِّر بهم من أنصاف المتعلمين ممن تأثروا بالفكر الغربي أو ممن اقتضت مصلحتهم الشخصية التلبس بلباس الثقافة الغربية ، وعلى كل حال لابد من بيان دلالة [الدِّينُ لِلَّهِ] ليتضح المُراد .
  قال تعالى (9):[ وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ لِلَّهِ فَإِنِ انْتَهَوْا فَلَا عُدْوَانَ إِلَّا عَلَى الظَّالِمِينَ] ، وقوله تعالى (10) :[ وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ فَإِنِ انْتَهَوْا فَإِنَّ اللَّهَ بِمَا يَعْمَلُونَ بَصِيرٌ].
المراد بالدِّين هنا الطاعة والعبادة أي تكون الطاعة والعبادة خالصة لله تعالى ليس للشيطان فيها نصيب ، والالتزام بتشريعاته ونظامه لتكون الأرض خالية من الكفر والشرك والفوضى وكل ما يدعو للفتنة ، فيجتمع كل الناس على طاعة الله وعبادته تحت راية الدِّين الإسلامي خاصة لأنَّ الألف واللام في [الدِّين] للعهد دون الاستغراق يُريد بذلك دين الاسلام الكامل الذي اكتملت بتبليغه رسالات السماء واستوعبت حقوق كل الناس ، و[الدِّين] منظومة حياتية متكاملة تشمل الحياة المادية والمعنوية ، وبالتالي يكون الدِّين حينئذٍ كلّه لله أي الطاعة كلّها لله سبحانه ولا طاعة فيه للشيطان والقوى الظلامية كالعلمانية وغيرها.
وكما ورد النص القرآني بصيغة [الدِّين لله](11) و [الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ] (12) ، فقد ورد أيضاً بصيغة : [لَهُ الدِّينَ] و[ لِلَّهِ الدِّينُ] في قوله تعالى (13): [فَاعْبُدِ اللَّهَ مُخْلِصًا لَهُ الدِّينَ * أَلَا لِلَّهِ الدِّينُ الْخَالِصُ] ، وقوله تعالى (14):[فَادْعُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ].
وهذه الصيغة القرآنية [ لِلَّهِ الدِّينُ] إنما يُراد من [الدِّين] هو الطاعة الخالصة لله عزّ وجل كما بَيَّنا ، أي واجب اختصاصه بالطاعة والخلوص له في ذلك من غير أن يشوب ذلك شرك أو رياء بلحاظ كونه متفرداً بالإلوهية ، ومطلعاً على الغيب والضمائر والسرائر ، لتكون طاعته شاملة من دون تبعيض تبعاً لأهواء الناس واستحساناتهم ومصالحهم الخاصة بل الطاعة تستوعب كل المناحي المأمور بها في خطاباته العقدية والعبادية والروحية وكل ما تتشكل منه المنظومة الإسلامية بما في ذلك الحاكمية ، واجتناب كل ما نهى عنه الشارع الحكيم بما في ذلك متابعة الطاغوت والتشريعات الوضعية المبتدعة والناقصة التي تكون وبالاً عليهم فتضر بحياة الناس الدنيوية وتُفسد عليهم آخرتهم .
إذن يجب على الإنسان أن يطلب رضا خالقه المنعم عليه في كُلِّ شيء ويُخلص له لأنَّ رضا الله غاية الغايات ، وقد قال تعالى(15) : [ وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلَاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ].
كما وأمر الله تعالى الناس بإقامة الدِّين الذي فيه حياة الشعوب في أصوله وفروعه ونهى عن التفرق فيه واتخاذ السُبُل المتعددة ، فقد قال تعالى(16) : [شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلَا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ كَبُرَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ مَا تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ اللَّهُ يَجْتَبِي إِلَيْهِ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ يُنِيبُ] .
وإقامة الدِّين أمر مطلق غير مقيد بشيء دون شيء فكما يشمل الأمور العقدية والعبادية كذلك يشمل ما يخص تدبير شؤون الأمة ورعاية أمرها وحفظ مصالحها التي لابد لها من حاكم شرعي موصوف بالعلم والعدالة وحسن الإدارة و التدبير والشجاعة لتتكامل دائرة الإقامة المأمور بها ، وبما أنَّ الدِّين لا فراغ تشريعي فيه كذلك لا فراغ قيادي فيه لأنَّ الأمة بلا حاكمية شرعية عادلة تعيش التيه والضياع والتمزق والتشرذم وتسلك طرقاً وسُبُلاً متفرقة لتكون لقمة سائغة بيد الطغاة والسفهاء وهذا مما لا يقبل به الحاكم الحقيقي وهو الله سبحانه وتعالى ، ولمَّا منع الله تعالى المؤمنين من متابعة حاكمية الطاغوت فهذا لا يعني أن يترك الأمة في فراغ بلا حاكمية لتكون رعية بلا راعي بل أسّس لهم قيادة ايمانية واعية كالنبي والإمام والفقيه الجامع للشرائط لكي تتم حجته البالغة على جميع خلقه لِّيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عن بَيِّنةٍ وَيَحيى مَنْ حَيَّ عن بَيِّنَةٍ ، وحينما نرفض النظام العلماني والليبرالي كحاكم للأمة فهذا لا يعني أنّنا نطالب بحاكمية الأحزاب السياسية المتأسلمة التي ترفع راية الإسلام كذباً وزوراً مهما زعمت وادعت لنفسها بامتلاكها غطاءاً شرعياً لأنَّ مَن يمنح لهم غطاءاً وسنداً أيّاً كانت هويته ورتبته فهو سيندرج في الإطار الحزبي القادح في عدالته مع مشاركته هذه الأحزاب في تحمل مسؤولية الفساد والدجل والفشل والخيانة للأمة ،  وعموماً فإنَّ غَلَبَة الهوى على الناس وطمعهم في الدنيا وتكالبهم على متاعها جعلهم يتفرقون عن حاكمية الأمة الشرعية ويضعفون أمام المخاطر والتحديات والمغريات مما سهَّل الأمر على دعاة الفساد والشَرِّ والضلالة من التسلط على رقابهم والتحكم بمقدراتهم بما تهوى أنفسهم الشريرة وعقولهم القاصرة وتشريعاتهم الوضعية الجائرة وتجاربهم الفاشلة ليعيثوا فسادا في الأرض تحت رايات وأنظمة ودساتير مختلفة كالمَلَكِيَة والعلمانية والشيوعية والليبرالية وغيرها مع وحدة هدفهم بمحاربة الدِّين ورموزه وجماهيره وإلقاء التُهَم واللائمة عليه في تفسير وتحليل تجارب الماضين من الدخلاء على الدِّين من الأمراء والسلاطين الذين نزو على حاكمية الإسلام باسم الدِّين ليُثبتوا من خلالهم تخلف ورجعية وفشل المشروع الإسلامي وفساد قادته ، وصاروا يُثقفون الناس على ذلك ويُضلّوهم عن الصراط المستقيم ، في حين أنَّ دولة الخلافة من الأمويين والعباسيين والعثمانيين ومَن سبقهم ممن شابههم ومَن لحقهم ممن سار على نهجهم لا يُمثلون الإسلام في شيء ولم يطرحوا مشروعا اسلاميا بل كانوا طُلاّب دنيا وسلطة ومال وأدوات لتوسيع نفوذهم وبلدانهم واستعباد البشرية ، فيكون من الظلم والإجحاف أن نحسب هؤلاء على المشروع الإسلامي الأصيل لنتهمه بعد ذلك بالرجعية والفشل ، بل الإسلام الأصيل كمشروع عالمي يحمل هموم الإنسانية جمعاء ليرعى حقوقهم في أنفسهم وأعراضهم وأموالهم ويمنع عنهم الاستضعاف والوقوع في شراك المضلات من الفتن واستبداد الطغاة ، ويسعى بمنطق العقل والبراهين الساطعة والخلق القويم إلى استنقاذ البشرية من جاهلية ظلماء مليئة بالشرك والكذب والسرقة والربا وشرب الخمر والزنا وأكل الحرام ووأد البنات والبغي وقتل النفس المحترمة واستعباد الناس وبيعهم في سوق النخّاسين وما إلى ذلك من المنكرات والقبائح التي مارسها المشركون بحق المؤمنين والمستضعفين .
ولذا ينبغي علينا الثبات والتمسك بديننا الإسلامي الذي هو صفوة الأديان وأن لا نموت إلا ونحن مسلمون بعدما اصطفاه لنا خالقنا العظيم ليكون لنا ديناً ودولة ، وأن لا نضعف أمام أعداء الدِّين وشبهاتهم الباطلة وأراجيفهم الكاذبة وشعاراتهم الضالّة .

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1- آل عمران/189 .
2 - العنكبوت/ 61 .
3 - هود / 61 .
4 - آل عمران/154 .
5 - النساء/97 .
6 - البقرة/193 : في قوله تعالى :[ وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ لِلَّهِ فَإِنِ انْتَهَوْا فَلَا عُدْوَانَ إِلَّا عَلَى الظَّالِمِينَ] ، وقوله تعالى  :[ وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ فَإِنِ انْتَهَوْا فَإِنَّ اللَّهَ بِمَا يَعْمَلُونَ بَصِيرٌ] الأنفال/39 .
7 - الماعون /4 .
8 - الماعون /4-7 .
9 - البقرة/193 .
10 - الأنفال/39 .
11 - البقرة/193 .
12 - الأنفال/39 .
13 - سورة الزمر/2-3 .
14 - سورة غافر/14 .  وقوله تعالى: [هُوَ الْحَيُّ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ]  غافر/65.
15 - البَيِّنَة/5.
16 - الشورى/13 .

no image

مواضيع قد تهمك

0 تعليق

تنبيه
  • قبل كتابتك لتعليق تذكر قول الله تعالى: ((ما يلفظ من قول الا لديه رقيب عتيد))
  • شكرا لك