سؤال حول ارضاع السيدة حليمة السعدية للنبي الاعظم صلى الله عليه وآله
إلى سماحة آية الله الفقيه السيد أبي الحسن حميد المقدس الغريفي دام ظله
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
يكرر دائما في كتب السير القديمة والمعاصرة ارضاع (حليمة السعدية) لنبينا محمد صلوات ربي وسلامه عليه في حين ان المعروف كون الأنبياء لم يرضعوا من امرأة غير مسلمة وغير موحدة بدليل قوله تعالى عن النبي موسى عليه السلام :(وحرمنا عليه المراضع ) فيكون ذلك من باب أولى لنبينا لانه اشرف الانبياء، فما هو رأيكم وتعليقكم، أفتونا مأجورين جزاكم الله خيرا
المرسل : الشيخ عودة العبيدي
الجواب:
وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته
باسمه تعالى
...............
من الواضح إنّ قضية إرضاع حليمة السعدية للنبي الأكرم محمد صلى الله عليه وآله وسلم من الأحداث التأريخية المشهورة بين عموم المسلمين حتى ورد في الكافي الشريف للكليني رحمه الله بشأن ذلك رواية ضعيفة لا يُعَوّل عليها أنّ عبد المطلب دفعه إلى حليمة السعدية ، كما توجد رواية صحيحة السند بأن النبي صلى الله عليه وآله وسلم التقى بأخته من الرضاعة من دون تسمية أخته وأمها، إلا إنّ بعض المؤلفين التزم على أنها الشيماء بنت حليمة السعدية، ورغم ذلك فإنْه ليس بالضرورة ما كان صحيح السند يكون صحيح المتن أيضاً لاعتبارات فيما لو كان الخبر مخالفاً للقرآن الكريم أو معارضاً بما هو أقوى منه وأرجح أو مستهجناً عقلاً وما إلى ذلك، بل رُبّ مشهور لا أصل له ولا واقع، وقد بثته الماكينة الإعلامية المنظمة ليتغلغل بين صفوف المسلمين عامة ويصبح من المسلمات في حين انه من صناعة المنتحلين للقصص والأخبار المزيفة لأهداف سياسية وعقدية تبعا لإرادة الدولة الأموية التي زيّفت التأريخ وتلاعبت بالأخبار حقداً وحسداً وعداءً للإسلام وللرسول الأعظم صلى الله عليه وآله وسلم وأهل بيته صلوات الله عليهم أجمعين.
ولا يخفى على المتتبع لتلك الأخبار التأريخية التي يجد فيها ما يُثير الاستغراب ويبعث على الاستفهام في أمور منها ما ذُكِر بشأن سبب إرضاع النبي صلى الله عليه وآله وسلم من غير أمه آمنة بنت وهب وهي من بني زهرة رضوان الله عليها، فقد قيل لأن أمه من أشراف النساء التي لا ينبغي لها أن تقوم بمهمة إرضاعه أكثر من سبعة أيام كما هي عادتهم ، وقيل إنّ لبنها قد جَفَّ، فقام عمه أبو طالب بإرضاعه من ثديه فدَرّ منه الحليب، وبعد ذلك تكفلت بإرضاعه ثويبة وهي أمَة لأبي لهب عم النبي صلى الله عليه وآله وسلم، وبعد ذلك جاءت الكثير من النساء المستأجرات للرضاعة فزهدن القيام بإرضاعه لأنه يتيم وفقير مع أن جده عبد المطلب زعيم قريش وكبيرها ومن الأغنياء ، ولكن بقيت حليمة السعدية حيث لم تجد لها طفلا ترضعه إلا ذلك اليتيم والفقير فقبلته لعل فيه البركة، فأخذته بمعية زوجها إلى الطائف.
وخلال هذا التعدد والتنوع في الرضاع صار للنبي صلى الله عليه وآله وسلم أخوة من الرضاع في تهافت من الأقوال.
والتفاصيل كثيرة والأحداث متعددة كما في شق صدر الرسول صلى الله عليه وآله وسلم عند بني سعد ، ولكن لابد من عرض أصل هذا الإرضاع من غير أمه على المرتكزات القرآنية التي تلحظ فيها رعاية إلهية خاصة للأنبياء والرسل والأوصياء بما يجعلهم أطهر المخلوقات وأسماهم علواً وشرفا ومكانة في تكوينهم وصيرورتهم أجنة وولادتهم وتكفل رضاعهم وما إلى ذلك ، كما نعرضها على الأخبار الأخرى المعارضة، ونُحَكِّم فيها الراجح نَصّاً وعقلا.
أولاً : القرآن الكريم :
.........................
لمّا كان الطفل الرضيع يتأثر بطباع وصفات وأخلاق مرضعته عن طريق الرضاعة فكان لابد من جعل الأنبياء في مأمن من الوقوع بما هو مخالف لمصلحته وطهارته وسموه، فحرّم الله تعالى المراضع على النبي موسى عليه السلام حفاظاً عليه من تأثيرات لبن الكافرة والحمقاء والبلهاء والقبيحة وما إلى ذلك؛ لأن اللبن يُعْدي، حيث قال تعالى بشأنه : ( وَحَرَّمۡنَا عَلَيۡهِ ٱلۡمَرَاضِعَ مِن قَبۡلُ)/ القصص /١٢، وهذا التحريم ليس لخصوصية في موسى عليه السلام وإنما هو كشف عن قاعدة ثابتة بشأن جميع الأنبياء الذين يخضعون لرعاية وتسديد إلهي حتى يحفظ طباعهم وصفاتهم وتصرفاتهم من أن ينالها الضعف والنقص والتشوه، فأرجع موسى عليه السلام إلى أمه ترضعه وتقر عينا، فقال تعالى : (وَأَوۡحَيۡنَآ إِلَىٰٓ أُمِّ مُوسَىٰٓ أَنۡ أَرۡضِعِيهِۖ فَإِذَا خِفۡتِ عَلَيۡهِ فَأَلۡقِيهِ فِي ٱلۡيَمِّ وَلَا تَخَافِي وَلَا تَحۡزَنِيٓۖ إِنَّا رَآدُّوهُ إِلَيۡكِ وَجَاعِلُوهُ مِنَ ٱلۡمُرۡسَلِينَ )، القصص /٧.
إذن فالرعاية واللطف والكمال الذي أحاط بموسى عليه السلام بتحريم المرضعات عنه شامل لجميع الأنبياء والمرسلين صلوات الله عليهم أجمعين بما فيهم نبينا محمد صلى الله عليه وآله وسلم لوحدة المناط والملاك.
فيكون إرضاع النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم من قبل ثويبة وهي أمة لأبي لهب ومن قبل حليمة السعدية مخالف للمرتكز القرآني ولشرائط المرضعة.
ثانياً : الإعجاز.
...................
من العجيب الغريب ما قيل من جفاف ثدي أم النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وهي آمنة بنت وهب ولم يجرِ فيها إعجاز بإدرار اللبن لإرضاع وليدها النبي في حين جرى الإعجاز في ثدي أبي طالب رضي الله عنه وفي ثويبة وفي حليمة السعدية حينما جفّ لبنها.
فالرضيع الذي أجريت على يديه معاجز ثلاث كما ذكرنا، كان الأولى جريانها في أمه آمنة بنت وهب.
ثالثاً : حضانة النبي ونشأته.
.....................................
ينبغي التفريق بين الإرضاع والحضانة؛ لأن الإرضاع وهو التقام الثدي والتغذي عليه من لبنه قد استوفاه النبي صلى الله عليه وآله وسلم من أمه آمنة بنت وهب ولكن بعد الفطام يحتاج الطفل إلى حاضنة تقوم بخدمته ورعايته، وكان من عادة أشراف مكة أن يرسلوا أبنائهم إلى البادية لتنشأتهم على القوة والصبر على تحمل مشاق الحياة مع إجادتهم فصاحة اللسان وبلاغته وعذوبته.
وقد ورد في الخبر أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال : (أنا أفصح العرب، بَيْدَ أني من قريش، ونشأت في بني سعد، وارتضعت من بني زهرة).
والنص صريح في كون نشأته كانت في بني سعد مع حليمة السعدية ولكنه ارتضع من ثدي أمه آمنة بنت وهب وهي من بني زهرة رضوان الله عليها .
إذن الراجح من القول هو ما تضمنه هذا الخبر الموافق للمرتكز القرآني وشرائط المرضعة والتحقيق التأريخي البعيد عن التناقض والتهافت الروائي ورجحانه على غيره من الأخبار ، علماً إنّ
مصادر هذا الحديث كثيرة من العامة والخاصة.
فمن مصادر العامة نذكر :
أولا : الصاحبي في فقه اللغة العربية /شباب القول في اللغة التي بها نزل القرآن / ص٣٢. لابن فارس الرازي ت ٣٩٥.
ثانياً : المجموع لمحيي الدين النووي ج١٨ ص ٢٢٧/ الثاني.
ثالثاً : البدر المنير في تخريج الأحاديث والآثار الواقعة في الشرح الكبير لابن الملقن سراج الدين الشافعي المصري / ج٨ ص٢٨٣ / حديث ٧.
رابعاً : مجمع الزوائد ومنبع الفوائد لأبي الحسن الهيثمي ت٨٠٧ هجري ج٨ ص٢١٨ / باب في كرامة أصله صلى الله عليه وآله وسلم.
خامساً: تيسير البيان لأحكام القرآن لابن نور الدين الشافعي المتوفى ٨٢٥ هجري / ج١ ص١٠.
سادساً: جمع الجوامع المعروف ب "الجامع الكبير" لجلال الدين السيوطي ت ٩١١هجري / تسلسل الحديث 85890
سابعاً: المزهر في علوم اللغة وأنواعها لعبد الرحمن السيوطي ت ٩١١هجري / ج١ ص ١٦٧ / الفصل الثاني.
ثامناً: سبل الهدى والرشاد للصالحي الشامي ج٢ ص٩٣.
واما مصادر الشيعة فمنها :
الأول: الاختصاص للشيخ المفيد ص١٨٧/ فصاحة النبي صلى الله عليه وآله وسلم وبلاغته.
الثاني : مسالك الأفهام للشهيد الثاني ج٧ ص ٢٤٢.
الثالث : شرح اللمعة الدمشقية للشهيد الثاني ج٥ ص١٦٥ / منشورات جامعة النجف الدينية.
الرابع : جامع المقاصد للمحقق الكركي ج ١٢ ص ٢٠٩.
أبو الحسن حميد المُقَدَّس الغريفي
النجف الأشرف
١٤ /ربيع الأول / ١٤٤٦ هجرية
0 تعليق
تنبيه