3‏/4‏/2019

إدارة الموقع

القضاة والمحامون .. بنظرة شرعية خاطفة


[  القضاة والمحامون  ]

بنظرة شرعية خاطفة
بقلم / سماحة آية الله الفقيه السيد أبو الحسن حميد المقدس الغريفي (دام ظله)
النجف الاشرف
مقال منشور في مجلة انصار الحجة (عج) - العدد 26

بطبيعة الحال فإنَّ البحث عن القضاة والمحامين له مجاله التخصصي والتفصيلي في بحوثنا الفقهية الاستدلالية إلا أنَّ هذا لا يمنع من بحثه بنظرة خاطفة لبيان رأي الشرع المُقدَّس بشأن مشروعية هاتين الوظيفتين المعمول بهما في عالمنا الإسلامي من خلال التعرف على مصطلح القاضي بمفهومه الشرعي والإطلاع على صفاته وشرائطه وحدود صلاحياته  تمييزاً له عن قاضي السلطان الذي تُعبِّر عنه النصوص بالطاغوت لعدم أهليته ولكونه يحكم بغير ما أنزل الله تعالى ، وهكذا الحال بالنسبة إلى مصطلح المحامي ، وبما أنَّ الله سبحانه وتعالى هو القاضي حقيقة وأنَّ هذا هو أحد أسمائه الحسنى ، الدال على كونه المُلْزِم في حُكْمِه ، الماضي في أمره ، ولذا استعير مصطلح القاضي لمن يحكم بين الناس في فصل خصوماتهم من اسمه عزَّ وجل  .


[ تعريف القاضي ]

وبعد هذا التقديم يسهل علينا تعريف
القاضي وبيان حدود ولايته وصلاحياته ، فيُمكن القول أنه : الشخص المنصوب من قبل المعصوم بالنصب الخاص أو العام من أهل الاختصاص ممن يمتلك أهلية الفتوى ويتمتع بالكفاءة ليحصل على ولاية القضاء التي بموجبها تنقطع الخصومة لكون حكمه يصبح نافذاً ومُلزماً لا يجوز نقضه ما دام يصدر على وفق الضوابط الموضوعية والموازين الشرعية ، كما هو حال الصحابي معاذ بن جبل وأمثاله المنصوبين بالنصب الخاص ، والفقهاء الجامعين للشرائط المنصوبين بالنصب العام .

 [ صفات القاضي وشرائطه ]

ولمّا كان الله تعالى لا ينزل إلى الناس ليقضي بينهم في خصوماتهم ونزاعاتهم فقد أوكل ذلك على نحو يختص بهم إلى أنبيائه ورسله وأوصيائهم ممن ثبتت ولايتهم بنحو خاص كالمعصومين عليهم السلام المنصوص عليهم ، وكذا المُعَيَّنين والمبعوثين من قبلهم بنحو خاص إلى القرى والمدن كما في إرسال معاذ بن جبل إلى اليمن ليقضي بين أهلها ، أو بنحو عام كالفقهاء المجتهدين العدول المستجمعين للشرائط والصفات المقررة شرعاً كالبلوغ، والعقل، والايمان، والعدالة، وطهارة المولد، والعلم، والذكورة، والضبط، ، وإذن الامام أو من نصبه ، وعليه فلو  نصب أهل البلد قاضيا لم تثبت ولايته ولا تنفذ أحكامه لأنَّ الأصل عدم نفوذ حكم شخص على آخر إلا ما خرج بدليل وهو المعصوم الذي اختص به منصب القضاء ، ومن كانت له أهلية القضاء ممن تمَّ تعيينه بالنص الخاص أو العام من قبل المعصوم كما هو المستفاد من الأدلة العقلية والنقلية لضرورة تعيين قاضٍ يتصف بالأهلية والكفاءة والاختصاص يتصل بالقاضي الأعلى والحَكم المطلق لأجل حفظ النظام العام وصون الحقوق وإقامة الحدود وفصل الخصومات لتكون اجراءاته وأحكامه مُلْزِمَة للجميع لا يجوز نقضها مادامت صادرة وفق الضوابط الموضوعية والطرق العلمية والموازين الشرعية ، وبذلك تكون مشروعيته مستمدة من الحاكم الحقيقي لا من النُظم والحكومات القاصرة والظالمة والسلاطين المستبدة الطاغية التي لا تملك الأهلية لنفسها ولا تتصف بالمشروعية ، فكيف لها أن تمنحها لمن هو أسوء حالاً منها أو مثلها كالقاصرين والمُقَصرين ، حيث أنَّ فاقد الشيء لا يُعطيه فتكون القضية سالبة بانتفاء الموضوع كما هو معلوم في المنطق ، ولذا لا يستطيع قاضي الدولة أن يجمع بين الحق والقانون الوضعي إلا في موارد محدودة قد استمدها من الشرع على فرض أن تكون اجراءاته وتطبيقاته صحيحة  لثبوت نسبة العموم والخصوص من وجه بين الحق والقانون .

[ قضاء غير المجتهد ]

ومن هنا يتضح أنَّ قضاء غير المجتهد مهما بلغ من العلم والفضل لا ينفذ ولا يؤثر أثره فضلاً عمن هو أدنى من ذلك من المتصدين الأميين ثقافياً ودينياً وإن كان يحمل شهادات عليا في الدراسات القضائية والحقوقية والقانونية الأكاديمية كما هو ثابت بالوجدان ، والمجروحين في عدالتهم والمنحرفين في ميولهم واتجاهاتهم ، والممارسين للقضاء على أنَّه وظيفة حكومية وسلطة متميزة يتقاضون عليها راتباً وامتيازات عالية كما تُمثِّل لهم واجهة اجتماعية لها مقامها في العرف الاجتماعي ، فيتجرؤون على التصدي لهذا المنصب العظيم والخطير ويحكمون بين الناس بغير ما أنزل الله تعالى في أنفسهم وأعراضهم وأموالهم ، وإن كُنَّا نجد فئة قليلة منهم ممن يحتاط في قضائه فيتواصل مع المرجعيات الدينية في ايجاد تخريجات ومعالجات شرعية لكثير من الإشكالات القضائية حتى يصح نفوذ قضائهم ولتجنبهم مخاطر القضاء ومحاذيره ، وهذا نظير ما أمر به أمير المؤمنين عليه السلام شريحاً القاضي حيث فرض عليه أن لا ينفذ قضائه إلا بعد مراجعته ليكون منصبه صورياً في واقع الأمر لأنَّ القاضي إنَّما يكون على شفا حفرة من النار بل هو من أهل النار إن تصدّى للقضاء وهو غير مؤهل له ،  كما روي عن أبي عبد الله عليه السلام (1) أنَّه قال :" لمّا ولى أمير المؤمنين عليه السلام شريحاً القضاء اشترط عليه ألا ينفذ القضاء حتى يعرضه عليه " ، وقد روي أيضاً عن أبي عبد الله عليه السلام أنَّه قال (2): قال أمير المؤمنين عليه السلام لشريح : " يا شريح قد جلست مجلسا لا يجلسه إلا نبي أو وصي نبي أو شقي " ، فجعل أمير المؤمنين منصب شريح صورياً وإداريا لا يتجاوز هذا الحد لعدم أهليته للقضاء حيث تمَّ تعيينه على عهد حكم عمر بن الخطاب ولمّا أراد أمير المؤمنين عزله في خلافته اعترض الناس تعصباً منهم لسياسة عمر بن الخطاب وتمسكاً بسيرته ورجالاته ، ومع ذلك لا ينجو المتصدي غير المؤهل من المسائلة عن تصديه لهذا المنصب بعنوانه القضائي مع ما يحمل من مخاطر دنيوية وأخروية  كونه مختصاً بالأنبياء والأوصياء ومَن تمَّ تنصيبه من قبلهما على نحو خاص أو عام ممن تستجمع فيهم شرائط القضاء ، ولذا صدرت التحذيرات من التصدي لهذا المنصب الخطير ، فقد روي عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم  أنه قال (3):" من جعل قاضيا فقد ذبح بغير سكين ".
وعن أبي بصير عن أبي جعفر عليه السلام قال (4): " الحكم حكمان حكم الله وحكم الجاهلية، وقد قال الله عز وجل : [ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْمًا لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ](5) ، واشهد على زيد بن ثابت لقد حكم في الفرائض بحكم الجاهلية ".
وروي أيضاً عن أبي عبد الله عليه السلام أنَّه قال (6): " اتقوا الحكومة فإنَّ الحكومة إنَّما هي امام العالم بالقضاء العادل في المسلمين ، لنبي أو وصي نبي ".
وعليه فمن يتصدى للقضاء وهو غير مؤهل له فهو شقي وطاغوت بحسب الأحاديث المعتبرة عن أهل البيت عليهم السلام ، ويكون قد انتحل صفة لا يستحقها ليقضي بين الناس بغير علم وبالباطل ، وكما يكون مأثوماً على تصديه كذلك تكون أحكامه فاسدة غير نافذة ولا أثر لها واقعاً ، ولذا نهت النصوص من الترافع اليهم إلا في مورد الضرورة كتوثيق الأمانات والحقوق الشخصية والاعتبارية أو لتوقف استنقاذ الحق على الترافع إليهم بل قد يشكل ذلك أيضاً أو ما يفرضه القانون على كل إنسان بمراجعتهم في بعض القضايا الإدارية ، لما يترتب على الترافع إليهم من مفاسد ومضار اجتماعية وضياع للحقوق وتعريض الأنفس والأعراض والأموال للخطر .
ولم يكن النقل مقتصراً على الروايات في بيان اختصاص القضاء بالأنبياء والأوصياء  بل الآيات كثيرة التي جعلت
 لهم الولاية العظمى ، ومنها ولاية القضاء ، منها قوله (7): [إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آَمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ] .
وقوله تعالى (8): [يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ  وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا] .
وفي خطاب الله عزّ وجل لنبينا محمد صلى الله عليه وآله وسلم كما قوله تعالى (9): [إِنَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللَّهُ وَلَا تَكُنْ لِلْخَائِنِينَ خَصِيمًا] ، وبما أراك أي أطلعك عليه من الأحكام المجعولة من قبله تعالى ليحكم على ضوئها بين الناس.
وكذا قوله تعالى (10) : [يَا دَاوُودُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلَا تَتَّبِعِ الْهَوَى].
وقوله تعالى (11) : [وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلَا
تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ عَمَّا جَاءَكَ مِنَ الْحَقِّ].
وقوله تعالى (12) : [وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ وَاحْذَرْهُمْ أَنْ يَفْتِنُوكَ عَنْ بَعْضِ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ إِلَيْكَ].
وقوله تعالى (13) : [أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْمًا لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ] .
وقوله تعالى (14): [وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ].
وقوله تعالى (15):[ وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ].
وقوله تعالى (16) : [وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ].

ويجد المتتبع آيات كثيرة تؤكد اختصاص الحكم بالرسول صلى الله عليه وآله وسلم وأولي الأمر عليهم السلام كما تنص أنَّهم لا يحكمون إلا بما أنزل الله تعالى بعيداً عن القوانين الوضعية وأهواء الناس ، وقد صرّحت صحيحة عمر بن حنظلة بعدم جواز الترافع إلى السلطان الحاكم وقضاته بل الترافع إنما يكون إلى الفقهاء العدول فيما رواه حيث قال  (17) : [سألت أبا عبد الله عليه السلام عن رجلين من أصحابنا بينهما منازعة في دين أو ميراث فتحاكما إلى السلطان وإلى (18) القضاة أيحل ذلك ؟ قال : من تحاكم إليهم في حق أو باطل فإنما تحاكم إلى الطاغوت ، وما يحكم له فإنما يأخذ سحتا ، وإن كان حقا ثابتا له ، لأنه أخذه بحكم الطاغوت ، وقد أمر الله أن يكفر به قال الله تعالى : " يريدون أن يتحاكموا إلى الطاغوت وقد أمروا أن يكفروا به ". قلت : فكيف يصنعان ؟ قال : ينظران [ إلى ] من كان منكم ممن قد روى حديثنا ونظر في حلالنا وحرامنا وعرف أحكامنا فليرضوا به حكما فإني قد جعلته عليكم حاكما فإذا حكم بحكمنا فلم يقبله منه فإنَّما استخف بحكم الله وعلينا رد والراد علينا الراد على الله وهو على حد الشرك بالله] .
وكذا حسنة أبي خديجة حيث قال (19) : [ قال لي أبو عبد الله عليه السلام : إيّاكم أن يحاكم بعضكم بعضاً إلى أهل الجور ، ولكن انظروا إلى رجل منكم يعلم شيئاً من قضايانا (قضائنا) فاجعلوه بينكم فإنّي قد جعلته قاضياً فتحاكموا إليه].
ومن خلال دلالة هذه الآيات والروايات نستفيد من كون القضاء مختصاً بالأنبياء والأوصياء ومَن تمَّ تنصيبه من قبلهما على نحو خاص أو عام ، وعليه فدلالة الصحيحة والحسنة واضحة في تنصيب الفقهاء الذين يعلمون شيئاً من قضايا أو قضاء  أهل البيت عليهم السلام وممن قد رووا حديثهم ونظروا في حلالهم وحرامهم وعرفوا أحكامهم ، ولذا صاروا مورد جعل وتنصيب من قبلهم عليهم السلام كما في صحيحة عمر بن حنظلة حيث قال عليه السلام: فليرضوا به حكما فإني قد جعلته عليكم حاكما ، وكما في حسنة أبي خديجة حيث قال عليه السلام : فإنِّي قد جعلته قاضياً  .
وهذا الجعل لا ينصرف حتماً إلى المُقلِّدين الذين ينقلون الفتوى لأنَّهم ليسوا بعلماء ولا يصدق عليهم أنهم أهل النظر في الحلال والحرام  ومعرفة الأحكام ، ولا يرتفع عنهم موضوع الجهل بالأحكام إلا بتحصيل العلم اجتهاداً لا تقليداً ، كما لا يصح الرجوع إليهم تحت عنوان قاضي التحكيم لأنَّ رضا المتخاصمين بمن لا أهلية له للقضاء ليس له موضوعية تُصحح الرجوع إليه كما لا تُحقق موضوع القاضي خارجاً لعدم صدق هذا العنوان عليه شرعاً ، كما لا يكون حكمه نافذا وملزماً للمتخاصمين وبالتالي لا يكون ملجأً لانتهاء الخصومة ، وبذلك ينتقض به الغرض من القضاء الذي يبتني مورده على الإلزام بإنهاء الخصومة ، فيكون ما ذهب إليه المحقق الخوئي قدس سره (20) من تصحيح المرافعة لدى ما سمّاه بقاضي التحكيم ليس في محله ، ولذا لابد من فهم دلالة النص " فاجعلوه بينكم " على كون رضا المتخاصمين واختيارهم للقاضي ممن له أهلية القضاء ومشروعية العمل به ليحكم بينهما  ويفض نزاعهما وخصومتهما ليكون حكمه نافذا وملزماً لهما لأنَّه مورد جعل المعصوم بقوله عليه السلام : فإنِّي قد جعلته قاضيا ، وليس لمدلول " فاجعلوه " إلا الرضا باختيار وتعيين أحد القضاة ممن له أهلية القضاء دون سواه لاعتبارات خاصة بالمتخاصمين ، ومع ذلك لا يندرج قاضي الجور الذي يحكم بغير ما أنزل الله تعالى والذي ثبت النهي عنه تحت عنوان قاضي التحكيم الذي يحفظ بعضاً من أحكام القضاء تقليداً لتصحيح عمله وإباحة الترافع إليه لمجرد أنَّ المتخاصمين قد رضيا به مع العلم أنَّ قاضي التحكيم لا دليل قاطع على اثباته كما أنَّه مخالف للأصل ، فيكون الشبيه والمُشبّه به من سنخ واحد موضوعاً وحكماً ، وبالتالي لا يجوز الترافع إليهما لعدم ثبوت ولايتهما مع عدم لزوم ونفوذ أحكامهما ، ليبقى النزاع قائماً والحقوق معلقة .
إذن من المقطوع به أنَّ النصوص من الكتاب والسُنَّة قد نهت صريحاً عن الترافع إلى قضاة الجور حتى وصفت قاضيهم بالطاغوت والشقي ، ولذا أوجبت على الأمة في قضائها بالرجوع إلى الفقيه الجامع للشرائط كما بَيَّنا ، أضف إلى أنَّ الفقيه يُمَثِّل القدر المتيقن لعنوان القاضي المنصوب من قبل الشارع المقدس بخلاف غيره وإن كان من أهل العلم حيث لا دليل على تنصيبه فضلاً عمن هو دونه في الرتبة العلمية.
ومن هنا لابد من بيان كون القضاء حاجة ضرورية ملحة في المجتمعات ، فهو من الواجبات الكفائية الذي يُحفظ به النظام العام ويستقر الأمن وتُصان الحقوق وتُقام الحدود ويتم فصل الخصومات والنزاعات ، ولذا فإنَّ ولاية القضاء أمرها عظيم وخطرها جسيم لأنه تصرّف في الأنفس والأعراض والأموال لانتزاع كل ذي حقٍّ حقه وتطبيق حدود الشريعة في القصاص والعقوبات البدنية والمالية والحبس والحجر والنفي وما يتعلق بالأحوال الشخصية من النكاح والطلاق والحضانة والنفقة والنشوز وولاية القُصَّر ، والوصي وما يتعلق بتقسيمات الإرث ، وما إلى ذلك مما تدخلت فيها الأنظمة الوضعية وتلاعبت في كثير من تفاصيلها ، وصار قاضي الدولة يصول ويجول بين هذه التشريعات الوضعية الباطلة ويسلب من الناس بقوة القانون وسلطة القوة ما يكون من حقهم شرعاً مُدَّعياً ولايته على ذلك من الدولة في قبال الولاية الشرعية من الله تعالى لأجل مكاسب مادية ومعنوية دنيوية زائلة غافلاً عن كونه مأثوماً وضامناً شرعاً لكثير من الحقوق المسلوبة وواقعاً تحت المسائلة الشرعية بلحاظ كونه طاغوتاً وشقياً باسم القانون والسلطان ، وما يأخذه من رسوم وأجور على الدعاوى  إنما يأكل سحتا ، وقد حدَّثنا التأريخ عن كثير من القضاة وبَيَّن جملة من مواقفهم المخزية كشريح القاضي وأبي موسى الأشعري ويحيى بن أكثم وابن أبي ليلى وأمثالهم من المتقدمين والمتأخرين والمعاصرين ، في حين أنَّ الفقيه الجامع للشرائط رغم ولايته الشرعية وأهليته للقضاء وكفاءته العلمية ودقته فيها وتشدده واحتياطه في القضاء واستقلاله عن سلاطين الجور إلا أنَّه يتورع عن خوض غمار القضاء بل نجد بعضهم يمتنعون عن تحمل هذه المسؤولية ويتهربون من القضاء تحت ذرائع كثيرة كما هو حال بهلول (أبو وهب) ، بخلاف ما عليه قضاة السلاطين ورجال الدولة الذين لا أهلية لهم ولا يتمتعون بالكفاءة واللياقة ولا يعيشون الاستقلالية بل نجد غالبهم إمعة بيد السلطان وحاشيته يُنفذون الأوامر ويخضعون للضغوط السياسية والحزبية لتمرير مصالح خاصة على حساب الحق والعدل وحقوق الناس وتكثر على أيديهم المظالم وقلب الحقائق والوقائع وإقصاء المؤمنين وإزاحتهم عن أي دور رسالي بمحاصرتهم أو حبسهم أو نفيهم أو اعدامهم تحت أيِّ ذريعة تناسبهم وباسم القانون ، وهؤلاء قد بذلوا الغالي والنفيس من أجل تحصيل وظيفة القضاء حُبَّاً في الدنيا وكسباً للمال والوجاهة والسلطة والرئاسة لإثبات أنفسهم بقوة القانون والتنمر على أهل العلم والفضل ، وإذا ما عُزل أحدهم عن القضاء لأيِّ داعٍ كان أو انتهت خدمته وصار متقاعداً فإنَّه يصبح أضعف الناس في شخصيته واجتماعياته مع انكشاف ركاكة فكره وثقافته وجموده على ما يحفظه من مواد قانونية التي سرعان ما تتعرض للتعديل والتغيير والتبديل من دون أن يكون له أي دور علمي واستنباطي لها ليُمثِّل واقعاً دور الموظف الإداري الذي يلتزم بالمواد القانونية حرفياً شأنه شأن أي موظف عادي يلتزم بحرفية القانون ويعتمد في اجراءاته عليها ، ولذا فالفقهاء صفتهم العلمية والقضائية الشرعية باقية ونافذة إلى انتهاء حياتهم ما دامت الشرائط ثابتة فيهم ، بخلاف قضاة الجور فإنَّ صفتهم الرسمية الحكومية قلقة كما أنَّها زائلة بانتهاء خدمتهم لعدم صدق القضاة عليهم حقيقة مع فقدانهم الشرعية والصفة العلمية ، وأمّا اطلاق صفة القاضي عليهم إنما يكون من باب التسامح والمجاز وجرياً مع عرف الدولة والعامة لأنه لا يمت إلى عملية القضاء في تفاصيلها بأيِّ صلة بل توصيفه وتسميته بالقاضي يكون تجنِّياً على القضاء والقضاة.
ولذا لا يصح اطلاق لفظ القاضي عليه لكون الصفة المنتحلة لا تمنح صاحبها إلا صفة الطغيان والشقاوة ، كما أنَّ الدول والحكومات الطاغوتية فاقدة لمشروعية عملها بل منهي عنها ، ولذا لا يصح لقضاتها التشبث بمشروعية عملهم استناداً إلى توظيف تلك الدول والحكومات لهم ، وعليه ينبغي للمتشرعين منهم مراعاة الاحتياط ومراجعة الفقهاء العدول واجتناب اصدار حكم يتعارض مع أحكام الشريعة ، كما لابد من اتخاذ المصالحة بين المتخاصمين كطريق للنجاة من الوقوع  في معارضة الشريعة.

[ المرأة والقضاء ]

وأمَّا تولي المرأة لمنصب القضاء الشرعي (21) فهو أمر لا يصح شرعاً لأنَّه مخالف لمقتضى ولاية القضاء بلحاظ كون المرأة لا ولاية لها على أحد  إلا على نفسها كما لا ينفذ أمرها في شيء خارج عن حقوقها الخاصة كما يتعارض توليها لهذا المنصب مع الأخبار المستفيضة والمتعاضدة المانعة من ذلك والتي عمل بها الأصحاب ، إضافة إلى أنَّ الارتكاز المتشرعي وسيرة المتشرعة والإجماع قائم على المنع ، مع احتفاف كل ذلك بقرائن ومؤيدات وشواهد ، وبذلك لا يصح الاستناد إلى الإطلاق أو السيرة العقلائية للحكم بجواز تولي المرأة لمنصب القضاء بعد ثبوت التقييد بالرجال والردع عن تولي المرأة لمناصب الفقيه.

[ القاضي الإداري ]

ويُمكن القول بأنَّ تصدي المرأة لمنصب القضاء رغم عدم أهليتها لذلك لا يختلف حالها عما ذكرناه بشأن قضاة الجور ، وبالتالي لا مانع من أن تُمارس دور القاضي الإداري ولكن ليس بعنوان القاضي الحقيقي بل بعنوانه المجازي التسامحي جرياً مع مصطلح الدولة والعامة ، أي بما يصح القول عنها بالموظف الإجرائي الإداري ، ومع ذلك ينبغي لها مراجعة الفقيه الجامع للشرائط في كل ما يحتاج إلى حكم ، كما لابد لها من مراعاة الاحتياط في حدود الله وحقوق الناس ، إضافة إلى اعتماد مبدأ المصالحة بين الخصمين في حدود الشريعة أو تحويل القضايا إلى قاضٍ آخر تجنباً من الوقوع في محرقة القضاء .
وأمّا ممارسة الرجل أو المرأة على حدٍّ سواء لما أسميته بمنصب القاضي الإداري بعنوانه الذي لا يتنافى في اجراءاته وتطبيقاته وأحكامه مع الشريعة بل وضرورة مراعاة العمل بالاحتياط في الأنفس والأعراض والأموال مع مراجعة الفقيه الجامع للشرائط في أي حكم يتطلب فتوى وحكم بما يرجع القضاء فيه حقيقة إلى الفقيه لا إلى القاضي الإداري وهذا مما لا اشكال فيه لأنَّه ليس قضاء حقيقة سوى أنَّه يُمارس دور اتخاذ اجراءات وتدابير لتطبيق الحكم الشرعي مع مراعاة الضوابط الموضوعية والموازين الشرعية وآليات العمل فيها وضبطها وتوثيقها لصون الحقوق وحفظ النظام ونشر العدل وردع الظلم .

[ المحاماة والمحامون ]

ومن المعلوم أنَّ معنى المحاماة إنما جاء من الحماية ، وهي مهنة مرتبطة بالعمل القانوني وتعيش في أجواء محاكم القضاء وعلى تماس مباشر مع الخصوم والقضاة لتمارس دور الدفاع عن حقوق الإنسان في نفسه وعرضه وماله ، وتدرأ عنه المخاطر وتُزيل التُهم ، وتستند في ذلك إلى تحكيم القانون المعمول به في تلك المحاكم ، ولا يحق لكل أحد أن يُمارس هذه المهنة بدلالتها القانونية إلا لمن كان حاملاً لشهادة البكالوريوس في القانون ، ولذا قال المُشَرِّع القانوني في قانون المحاماة ما نصّه : المحاماة : " مهنة حرة تشارك السلطة القضائية في تحقيق العدالة وفي تأكيد سيادة القانون وفي كفالة حق الدفاع عن حقوق المواطنين وحرياتهم " ، وأيضاً قال المُشَرِّع في تعريف المحامي : " هو شخص يشارك القاضي في إقامة العدل ، ويمارس مهنة المحاماة في استقلال ، ولا سلطان عليه في ذلك إلا لضميره وأحكام القانون ".
وعموماً فإنَّ مهنة المحاماة في نفسها جائزة لأنَّ المحامي إنما يُفتَرَض أنْ يعمل وكيلاً عن موكله للدفاع عن حقوقه العادلة في حدود قضاة العدل وأحكام الشريعة إلا أنَّ الدور الذي يُمارسه المحامي للأسف الشديد في ظل الحكومات الوضعية والمحاكم الطاغوتية وإن كان لا يُصدر أحكاماً قضائية إلا أنَّه يحتكم في دفاعاته إلى قضاة الجور كما يستند في دفاعه إلى القوانين والتشريعات الوضعية الكثيرة والمخالفة لأحكام الدّين والتي يتقيد بها رغم كونها تقلب الحق باطلاً والباطل حقاً ، وتَحْرِم أرباب الحق من حقوقهم أو تُعطي لطرف أو تمنع عن طرف بما فيه تجاوزاً أو نقصاً عن الحد المقرر شرعاً ، تبعاً لتلك المعايير والموازين المخالفة للشريعة والتي فيها اجحاف وظلم لأرباب الحق الشرعي كما في محاكم الأحوال الشخصية والبداءة والجنايات والجنح وغيرها ، فتجد الأعم الأغلب من المحامين يقعون في المظالم والمحرمات ويؤثمون ويأكلون السحت باكتسابهم الأجر على عملهم في هذه المهنة من دون مبالاة تحت ذريعة أنَّ هذا كسب عيشهم ومصدر رزقهم كما أنَّ عملهم في ظل القانون وبمشروعية الدولة ، وأنَّ الحق والعدل يدوران مدار أوامر الدولة وقوانينها ، فيكون عملهم في سياق عمل قضاة الجور ، وكلا الوظيفتين تؤديان إلى تعطيل أحكام الشريعة !!! ، في حين يوجد عناصر مؤمنة متشرعة رغم حملهم لشهادة القانون وتفوقهم فيها إلا أنَّهم قد اعتزلوا مهنة المحاماة ولا يُمارسوها إلا حال اضطرارهم وتيقنهم بعدالة القضية المُوَكَلِّين بها وبصحة اجراءاتها .
ومن هنا يتضح أنَّ المحامي الذي أدّى قسم شرف المهنة لممارسة دوراً أخلاقياً ونزيهاً على الصعيدين الشخصي والمهني من أجل تحقيق العدل والإنصاف ، وحماية حقوق الموكلين له والآخرين تحت ظل الدولة العلمانية وقوانينها الوضعية أمر غير قابل للتحقيق والتطبيق لتناقض العدل مع كثير من مواد القانون وحينئذٍ لا يجتمع الحق مع الباطل لكون الحق يُنتج عدلاً في حين يُنتج القانون باطلاً ، وعليه تبقى مهنة المحامي في أغلب الأحيان من أذرع الظلم والطغيان والفساد لكونها من المهن التي تمارس الظلم والحيلة والتضليل لكسب المال الحرام ، ولكن لا يعني ذلك عدم وجود مجالات محللة للمحامي يُمكن له أن يعمل في ساحتها كتوكيله في كتابة العقود ومتابعة الاجراءات الإدارية وتوثيق المستندات واستخراج القسّامات الشرعية والترافع لاستنقاذ الحقوق الشرعية المتيقنة والوقوف بوجه الظالمين لتحرير الأسرى والمظلومين من سجون الطغاة المستبدين والدفاع عن المستضعفين والمحرومين ، وكذا في متابعة الحقوق على المستوى القطري والدولي في القضايا الأمنية والسياسية والاقتصادية و... وما شابهها من قضايا ينتزع فيها الحق للمظلوم من الظالم بلا تجاوز ولا طغيان على الحدود والحقوق الشرعية الثابتة.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1  - تهذيب الأحكام للشيخ الطوسي ج ص 217/باب 87 من إليه الحكم /حديث 2/ تسلسل 510.
2  - تهذيب الأحكام للشيخ الطوسي ج ص 217/باب 87 من إليه الحكم /حديث 1 / تسلسل 509.
3  - المقنعة للشيخ المفيد ص721 .
4  - تهذيب الأحكام للشيخ الطوسي ج ص 218/باب 87 من إليه الحكم /حديث 4 / تسلسل512 .
5  - المائدة/50 .
6  - تهذيب الأحكام للشيخ الطوسي ج ص 217/باب 87 من إليه الحكم /حديث 3 / تسلسل511 .
7  - المائدة/55 .
8  - النساء/59 .
9  - النساء/ 105 .
10  - ص/ 26 .
11  - المائدة /48 .
12  - المائدة/ 49 .
13  - المائدة/50 .
14  - المائدة/44 .
15  - المائدة/ 45 .
16  - المائدة/47 .
17 - حاكمية الفقيه وحدود ولايته على الأمة للمقدّس الغريفي ص 73 .
18 - في نسخة التهذيب بدل (وإلى) ذكر (أو) : فتحاكما إلى السلطان أو إلى القضاة أيحل ذلك .
19 - حاكمية الفقيه وحدود ولايته على الأمة للمقدّس الغريفي ص 246 .
20 - حاكمية الفقيه وحدود ولايته على الأمة للمقدّس الغريفي ص249 .
21 - حاكمية الفقيه وحدود ولايته على الأمة للمقدس الغريفي ص 407 / المبحث الرابع .

القضاة والمحامون .. بنظرة شرعية خاطفة

مواضيع قد تهمك

0 تعليق

تنبيه
  • قبل كتابتك لتعليق تذكر قول الله تعالى: ((ما يلفظ من قول الا لديه رقيب عتيد))
  • شكرا لك